02 / 07 / 2014

أثر القرآن في شعر جرير

أ . م . د    سلام احمد خلف الدليمي

كلية الآداب / جامعة بغداد

لست هنا في سبيل الكلام عن الخصائص الفنية لأسلوب القرآن الكريم ، فقد عقدت لذلك دراسات عدة منذ أن فقه العرب هذا السفر الجليل ، وما زالت هذه الدراسات تتوالى وتحوم حوله كاشفة عن بعض من سرَّ إعجازه وبلاغته ، وظل بعد طول الدرس والتحليل واختلاف الأجيال ( قرآنا ) لا هو شعر ولا هو نثر ، إنما الذي يعنينا هو موقف الأدباء منه ودوره في بعث الفكر العربي وما فتحه له من دروب للمعرفة .

كان الأدب في شعره ونثره اشد جوانب هذة الحياة تأثرا بالقرآن الكريم ؛ لأن الشعر والخطابة كانا وسيلة العصر للتعبير عن شؤون حياته العامة ، ولما كان القرآن الكريم قد جاء ليقيم هذه الحياة على نمط جديد ، كان الأدب بحكم دوره المذكور عنصراً من عناصر هذه التجربة فلم يكن له بطبيعة الأمر أن يظل في معزل عنها ، ولم يكن لآثارها ان تظهر عليه إلا حين يستوي لها لأمر ، وإذا رأينا أن أثره ظل مقتصرا على خطب الخلفاء الراشدين – رضي الله عنهم – ، وشعر بعض الشعراء الذين دافعوا عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ، ذلك لان العرب في هذه الحقبة كانوا وما زالوا في دور دراسة القرآن الكريم والاطلاع عليه ، غير أن آثاره ستظهر جلية واضحة في أدب النصف الثاني من القرن الأول حين بدأ دور التأثر والتمثل والاستيعاب للقرآن الكريم ومادته ، وهذا ما سنحاول عرضه في ميدان واحد من ميادين النتاج الأدبي وهو الشعر وفي شعر شاعر من هذه الحقبة وهو جرير.

ولد جرير في السنوات الأخيرة من حكم عثمان بن عفان – رضي الله عنه – ، وما أن شب حتى وجد نفسه في دولة إسلامية ، وفي امة تقرأ القرآن وتفسره وتقيم حياتها على ما رسمه من قواعد وما تستنبطه من تشريعات وأحكام .

وسواء كان شاعرنا متديناً أو متظاهراً بالتدين والصلاح ، فان ديوانه يدل على ثقافة إسلامية ومعرفة بالقرآن الكريم واطلاع على أحكامه وقصصه وأسلوبه ،

وتأثر بهذا الأسلوب تأثراً واضحاً في صياغته ، وألفاظه وتعابيره ، فضلاً عن استعماله لكثير مما شاع من المصطلحات والألفاظ التي جدت مع الحياة الإسلامية .

ومن ألوان هذا التأثر بالقرآن الكريم أن الشاعر يعمدا أحيانا إلى أن يفرغ معنى آية أو أكثر في بيت واحد ، مستعينا على ذلك ببعض الألفاظ التي تستعملها الآية نفسها بعد أن يغير في صيغها ما تتطلبه الضرورات الفنية في الصياغة الشعرية ومن أمثلة وذلك قوله :

أعطاك ربي من جزيل عطائه         حتى رضيت فطال رغم الحاسد

والبيت مقتبس في المعنى من الآية (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ) (سورة الليل الآية : 5) ، وقوله :

من يهده الله يهتد لا مضل له         ومن أضل فما يهديه من هاد

وهو اقتباس لمعنى الآية (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ) (سورة الأعراف الآية : 178)

وقوله :

يجزيك ربك حسن قرضك انه       حسن المعونة واسع المتقرض

أخذه عن الآية (إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ) (سورة التغابن الآية : 17)

وقوله :

قوم لهم خص إبراهيم دعوته           إذ يرفع البيت سورا فوق تأسيس

أخذه عن الآية (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ ) ( سورة البقرة الآية : 127)

ولم يتوقف تأثير جرير بالقرآن الكريم عند باب المديح في شعره بل انه تسرب إلى الهجاء ، وهو ينهج عليه في المديح من تلخيص واقتباس للآيات التي توافق الفكرة التي يريد صياغتها شعرا ، ومن أمثلة ذلك قوله للفرزدق :

تخف موازين الخناثي مجاشع         ويثقل ميزاني عليهم فيرجح

وهو إشارة إلى الآية ( فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ) ( سورة القارعة الآية : 6 – 9) .

ومن إشارته إلى أحكام القرآن الكريم قوله في هجاء الأخطل يعيره بدفع الجزية :

الضاربون على النصارى جزية         وهدى لمن تبع الكتاب ونورا

وقوله يشير إلى قطع يد السارق :

ولو يعلم السلطان ما تفعلونه           لبانت يمين منكم ويمين

والى جانب هذه النماذج التي ذكرناها نجد شاعرنا قد استعمل في شعره مجموعة كبيرة من ألفاظ ومصطلحات العصر الإسلامي سواء منها ما ابتدعته هذه الحياة أو ما وجدته مستعملا في اللغة فحملته معنى من معانيها فأصبح ذا صبغة إسلامية ولما كانت الحياة الإسلامية قد تميزت بميدانين جديدين هما ميدان الحكم والسياسة وميدان الدين ، فان أكثر ما نجده من ألفاظ إسلامية في شعر جرير يتصل بهذين الميدانين .

لقد احدث القرآن الكريم هزة في الفكر العربي وأساليب تعبيره وأصبح لأهل الرأي والثقافة مصدرا أساسيا في علمهم الأدبي ، ولم يكن لجرير ، الشاعر الذي حفلت بذكره قصور الخلفاء وأسواق الأدب وحلقات العلماء ، أن يغفله ويصد عنه ، ولعل مما زاد في اهتمامه بهذا السفر الجليل هو انه ممن وضع طاقته الفنية للإسهام في احداث عصره ، تلك الأحداث التي كان القرآن الكريم مدارها في ميادين الخلافة والسياسة ، و يضاف إلى ذلك أن ظروف عصره السياسية والقبلية كانت قد دفعته إلى الوقوع في خصومة عنيفة مع شاعرين مثله شهرة ومكانة فنية ، هما الفرزدق والأخطل ، وكان الأول ، فيما يروى عنه ، ماجنا فاسقا ، وكان الثاني نصرانيا ، فوجد جرير في هاتين الصفتين مجالا للطعن في خصميه وفرصة للظهور بمظهر المسلم التقي من جهة أخرى ، فإذا هجا الفرزدق رماه بفسقه وفجوره متقمصا هو ثياب التقي والورع ، وإذا برز للأخطل النصراني رماه بدينه وتكلم بلسان المسلم الذي لم يرض بغير الإسلام دينا .

ولهذه العوامل مجتمعة ، أكثر شاعرنا من ذكر القرآن الكريم والرجوع إليه وتزود منه بمادة لا تكاد قصيدة في ديوانه تخلو من إشارة إلى لون من ألوانها ، ومهما كانت الدوافع التي حملته على هذا ، فقد تميز بين شعراء عصره الهجائيين بروح إسلامية تبدو كأنها صادقة مخلصة .

ويبدوا أن هذه الملازمة للقرآن الكريم ، سواء في الصياغة أم المادة ، لم تفد جريرا في تثمين شاعريته ، إذ أننا لم نقف ، فيما عقد النقاد بينه وبين معاصريه من موازنات ، على ناقد يغلبه لذهابه هذا المذهب .

فلم يغتر أهل الدين والتقى بهذه الإشارات الدينية في شعره ، ولم تكفه عندهم زكاة لنفسه ، فقد كان يختم مجلسه بالتسبيح فيطيل ، فقال له رجل : ما يغني عنك هذا التسبيح مع قذفك للمحصنات ! فتبسم وقال : يا ابن أخي ( خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله آن يتوب عليهم ) .

 


X أرشيف مطبوعات الديوان


مجلة الرسالة الاسلامية



مجلة عيون الديوان



مجلة بنت الاسلام



مجلة الامة الوسط



مجلة والذين معه