21 / 10 / 2013

أحوال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- في الحج

 د. خالد عصام خليل

لاتزال ايام الخير تتابع ،ومواسم الطاعة تتوالى،  فالحياة حياة الدنيا ، والفسحة فسحة أمل والساعات رحلة عمر يتأهب لها الانسان في كل لحظة نفس ، والشيطان – لعنه الله – في مذلة تلو مذلة ، والحج اقبل منذ ان صدح به نبي الله ابراهيم الخليل – عليه السلام –  والقوافل تسير حتى يومنا ،  فنبي الله ابراهيم – عليه السلام – أسس وخاتم النبيين – صلى الله عليه وسلم –  أكمل وجمل وعلم وربى وبنى أمة شهد الله – تعالى – لها ان تكون شهيدة على العالم اجمع قال – تعالى – ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ)) (143) البقرة: ١٤٣ . وقال – تعالى  – ((وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)) (78) الحج: ٧٨ . هاتان الآيتان تؤكدان حقيقة  ذلك الترابط ما بين تأسيس الكلمة الاولى لنبي الله ابراهيم – عليه السلام –  وما بين اكمال الصورة لخاتم النبوة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – .

و نحن بصدد الحديث عن انوار الحج احببت ان تكلم عن احوال الحبيب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وحال السلف في بتلك الرحلة العجيبة الفذة التربوية الحكيمة المستقبلية الحضارية التأسيسية النهضوية المكتملة الانسانية

فكيف كان رسول الله في الحج ، توحيده لله – تعالى – / استمراريته – صلى الله عليه وسلم-  وهو يلهج بشعار الحج  منذ دخوله في النسك إلى حين رميه لجمرة العقبة يوم النحر .(( لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك ان الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)) دليل على ان الحج هو بداية انسان جديد

إخلاصه في العمل وإظهار البراءة من المشركين  / كما في حديث أنس – رضي الله عنه – مرفوعاً قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: (( اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة )) (سنن ابن ماجة )  وفي خطبته يوم عرفة ، أخبر أن كل شيء من أمر الجاهلية فهو موضوع تحت قدميه (صحيح مسلم).

ووقوفه مع الناس بعرفة ومخالفته لكفار قريش الذين كانوا يقفون في مزدلفة ويقولون : لا ((نفيض إلاّ من الحرم )) ومنها : إفاضته – صلى الله عليه وسلم –  من مزدلفة قبل طلوع الشمس مخالفاً المشركين الذين كانوا لا يفيضون منها حتى تطلع الشمس، (صحيح البخاري) .

الحاحه بالدعاء – صلى الله عليه وسلم – / وقد كان للنبي – صلى الله عليه وسلم – في الحج منه أوفر الحظ والنصيب ؛ فقد دعا ربه في الطواف ، وعند الوقوف على الصفا و المروة ، وأطال في الدعاء يوم عرفة وهو على ناقته رافعاً يديه إلى صدره ومنذ أن استقر في مقامه الذي وقف فيه بعد الصلاة إلى أن غربت الشمس ، وفي مزدلفة في المشعر الحرام منذ أن صلى الفجر إلى أن أسفر جداً قبل أن تطلع الشمس وفي أيام التشريق بعد رمي الجمرتين الأُوليين كان يستقبل القبلة ويقوم طويلاً يدعو ويرفع يديه ، – صلى الله عليه وسلم – (صحيح البخاري وصحيح مسلم ) الدعاء الدعاء فهي رحلة قرب من الله – تعالى-.

سكينة وخشوع / يدل على ذلك حديث جابر – رضي الله عنه – قال : ((أفاض رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وعليه السكينة )) (سنن النسائي)  ، وحديث عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما –  ((أنه دفع مع النبي – صلى الله عليه وسلم – يوم عرفة ، فسمع النبي – صلى الله عليه وسلم – وراءه زجراً شديداً وضرباً وصوتاً للإبل ، فأشار بسوطه إليهم ، وقال : ((أيها الناس عليكم بالسكينة ؛ فإن البر ليس بالإيضاع )) (صحيح البخاري) .

توازن واعتدال / خير الأمور الوسط وكراهيته الإفراط والتفريط  الذي قد يدفع الكثيرين إلى التفريط في حق الجسد والإفراط في حق الروح نجده – صلى الله عليه وسلم – معتنياً بجسده غاية العناية ؛ إذ صعد يوم التروية إلى منى ليقرب من عرفة (صحيح البخاري )، ونام ليلة عرفة ومزدلفة (سنن ابي داؤد)، وأفطر يوم عرفة (صحيح مسلم ) ، وترك ليلةَ جَمْع صلاة النافلة (صحيح البخاري)، واستظل فيه بقبة من شعر ضُرِبت له قبلُ (صحيح مسلم )، وركب في تنقلاته بين المشاعر (صحيح البخاري) وأثناء قيامه ببعض أعمال الحج (صحيح البخاري)، واتخذ – صلى الله عليه وسلم – من يخدمه ويقوم بأمره (صحيح مسلم)…  ونحو ذلك من الأمور التي ترفق بالجسد .

تواضع ورحمة / أنه حج – صلى الله عليه وسلم – على رَحْل رثٍّ وقطيفة تساوي أربعة دراهم أو لا تساوي (سنن ابن ماجه) و إردافه – صلى الله عليه وسلم – على راحلته أمام الحجيج أسامة بن زيد – رضي الله عنهما – من عرفة إلى مزدلفة ، و الفضل بن العباس – رضي الله عنهما – من مزدلفة إلى منى (صحيح البخاري) عدم تميُّزه في الموسم عن الناس بشيء – صلى الله عليه وسلم -جاء إلى السقاية فاستسقى فقال العباس : ((يا فضل ! اذهب إلى أمك فائت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بشراب من عندها ، فقال : ((اسقني ، قال : يا رسول الله ! إنهم يجعلون أيديهم فيه .  قال : اسقني ، فشرب منه )) (صحيح البخاري).

اختلاطه المباشر مع الناس/ إذ أمر – صلى الله عليه وسلم – بأن يؤذن قبل الحج في الناس بأنه – صلى الله عليه وسلم – يريد الحج؛ ليسهل على من يريد مرافقته السفر معه ، فقدم المدينةَ بشرٌ كثير كلهم يلتمس أن يأتم به ويأخذ عنه (سنن ابي داؤد) ، فاختلط بالناس وأشرف لهم ، وبرز طوال الموسم (صحيح مسلم )، وكان أحد لا يُصرف عنه ولا يُدفع (صحيح مسلم) فهي رحلة ظهور امام الناس وليس اختلاء عن الناس؛ لأنها تجربة مخالطة العالم والصبر عليهم وعلى عاداتهم .

الفتوى والتيسير بها / من أهم أحوال النبي – صلى الله عليه وسلم – والأعمال التي تقلب فيها مع الناس في الحج تبيين المشكل عليهم من الأحكام والجواب عن استفساراتهم ، ومن أشهر فتاويه – صلى الله عليه وسلم – في الحج  أن امرأة من خثعم قالت : ((يا رسول الله ! إن أبي شيخ كبير عليه فريضة الله في الحج وهو لا يستطيع أن يستوي على ظهر بعيره)) ، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – : فحُجي عنه )) (صحيح مسلم): جنوحه إلى التيسير في فتاويه (صحيح البخاري) والتخفيف على ذوي الحاجات (صحيح البخاري) .   ومنها : حرصه – صلى الله عليه وسلم – على الإقناع لمن يستفتيه كقوله صلى الله عليه وسلم لرجل قال له : ((يا رسول الله ! إن أبي أدركه الإسلام ، وهو شيخ كبير لا يثبت على راحلته ، أفأحج عنه ؟ قال : أرأيت لو كان عليه دين فقضيته عنه أكان يجزيه ؟ قال : نعم .  قال : فأحجج عن أبيك )) (مسند الامام احمد).

وصية بالضعفاء بكل اصنافهم / إذ قال  – صلى الله عليه وسلم – : (( فاتقوا الله في النساء ؛ فإنكم أخذتموهن بأمان الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله )) (صحيح مسلم) وجاء في حديث مرفوع : ((أرقَّاءَكم أرقاءَكم أرقاءَكم أطعموهم مما تأكلون ، وألبسوهم مما تلبسون ؛ فإن جاؤوا بذنب لا تريدون أن تغفروه فبيعوا عباد الله ولا تعذبوهم )) (مسند الامام احمد). تيسيره – صلى الله عليه وسلم – على الناس في التقديم والتأخير في أعمال يوم النحر ، وقوله لمن سأله عن ذلك : ((افعل ولا حرج )) (صحيح البخاري).

رسالة لتوحيد الصف /  تسويته – صلى الله عليه وسلم – بين أفراد الأمة ، وعدم تمييزه بينهم إلا بالتقوى ؛ إذ قال – صلى الله عليه وسلم – : ((إن ربكم واحد ، وأباكم واحد ؛ ألا لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا لأسود على أحمر ، ولا أحمر على أسود إلا بالتقوى )) (مسند الامام احمد).

التربية بالطاعة والاتباع / في مواطن عدة خلال الموسم بالتأسي به وتحفيزه إياهم على ذلك بذكر احتمال أن تكون حجته تلك آخر حجة له ؛ إذ قال –  صلى الله عليه وسلم- مراراً : ((لتأخذوا مناسككم ؛ فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه )) (صحيح مسلم). في خطبته يوم عرفة حيث قال – صلى الله عليه وسلم -: (( وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به : كتاب الله )) (سنن ابن ماجه). فمشاعر الحج ومناسكه كلها تدعو الى  التربية الوجدانية والضمير الانساني فهي تربية روحية وبدنية.

قيادة ناجحة/ من أبرزها ما جاء في خطبة الوداع حين قال – صلى الله عليه وسلم – : ((ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدميَّ موضوع ، ودماء الجاهلية موضوعة ، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل ، وربا الجاهلية موضوع ، وأول ربا أضع ربانا ربا العباس بن عبد المطلب فإنه موضوع )) (صحيح مسلم). هنا القيادة تظهر بكل معانيها هكذا يريد رسول الله –  صلى الله عليه وسلم – ان يعلم القادة .

احسانه للناس / استجابته – صلى الله عليه وسلم – لرغبات الناس وتحقيقه لمطالبهم تطييباً لنفوسهم ومراعاة لخواطرهم (صحيح البخاري). حرصه – صلى الله عليه وسلم – على نجاة أمته وقبول الله لها ، إذ ألح على الله بالدعاء لها بالمغفرة عشية عرفة وفي مزدلفة ، وحين طلب أحدهم الدعاء منه عمم دعاءه فقال : ((غفر الله لكم )) (مسند الامام احمد) ركوبه –  صلى الله عليه وسلم – أثناء أداء بعض المناسك كالطواف والسعي خشية أن يُدفع عنه الناس ويُضربوا بين يديه (صحيح مسلم).

مع اهله – صلى الله عليه وسلم – / ما جاء في حديث أم سلمة – رضي الله عنها – قالت : ((سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول : أهلُّوا يا آل محمد بعمرة في حج )) (صحيح ابن حبان)، أنه حين مر على بني عمومته ، وهم ينزعون الماء من بئر زمزم ويسقون الناس خاطبهم قائلاً : ((انزعوا بني عبد المطلب ؛ فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم )) (صحيح مسلم) ، بل إنه – صلى الله عليه وسلم – كان ييسر لهم ذلك ، ومنه : إذنه لعمه العباس  – رضي الله عنه – بالبيتوتة بمكة ليالي أيام التشريق من أجل سقايته الحجيج (صحيح البخاري) . استعان النبي – صلى الله عليه وسلم – بآل بيته – رضي الله عنهم – ، واستنابهم واستعملهم في بعض أمره ، ومن شواهد ذلك :  جعله – صلى الله عليه وسلم – زوجه عائشة – رضي الله عنها – تفتل له قلائد بُدْنِه من صوف كان عندها بالمدينة قبل أن يحرم (صحيح البخاري)  بعد كل هذه المواقف لرسول الله –  صلى الله عليه وسلم- في الحج. علما اننا لم نقف على كل تلك التجليات ، اقول ان الحج هو قيادة حكيمة وتربية عميقة وتوحيد بصوت عال ودعاء ملحاح وسكينة وأدب وإخلاص وتجرد وتوازن واعتدال وطاعة وتواضع ورحمة وإحسان واختلاط بالناس والعناية بهم وحب وصدق وقرب من الارحام ، هكذا اردت ان تصل فكرتي .

فالحج عالم بداية انسان جديد ، فطوبى لمن قُبل حجه وتبدل حالهُ الى أحسن حال وخير مآل ، والحمد لله رب العالمين .


X أرشيف مطبوعات الديوان


مجلة الرسالة الاسلامية



مجلة عيون الديوان



مجلة بنت الاسلام



مجلة الامة الوسط



مجلة والذين معه