16 / 11 / 2014

الاثار التربوية لأيام عشرة ذي الحجة لغير الحاج

أ.م.د. نهاية محمد سعيد القيسي

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى اله واصحابه اجمعين وبعد :

فأن من فضل الله تعالى ومنته أن جعل لعباده الصالحين مواسم للخيرات والطاعات ، يستكثرون فيها من الاعمال الصالحة والقربات ويتنافسون فيها رغبة فيما عند ربهم من الدرجات والجنات

ومن هذه المواسم : (( عشرة ذي الحجة )) التي ورد في فضلها ما يرفع الهمم ، ويجعل المسلم يبادر الى الطاعات ويسارع الى الخيرات .

لقد بعث الله رسوله الكريم لعالم بعدت الشقة بينه وبين هدي السماء ففشا فيه الظلم ، وعمه الجهل ، وظهر فيه الفساد ، ملوكه وحكامه ظلمة ، ليس لهم عاصم من نظام او قانون ، ولا وازع من دين او خلق ، ولا رادع من وعي الشعوب وثورتها ، ورجال الدين والعلماء جعلوا من انفسهم سدنه للظلم وركائز للطغيان ، وشعوب الارض لا تفكر في ثورة او اصلاح … عالم كأنه غابة تسودها شريعة المخلب والغاب .

في هذا العهد جاء النبي محمد صلى الله عليه وسلم ليخرج العالم من ظلمات الجاهلية الى نور الاسلام ، فكانت بعثته نهاية لعهد الطفولة البشرية وبداية لعهد الرشد والاكتمال .

وتأبت مكة على الاسلام ، وقاومت هديه بكل سلاح ، وربى الرسول صلى الله عليه وسلم ثلة مؤمنة هاجر بهم الى يثرب حيث كون مجتمع واقام دولة ، ثم دانت الجزيرة كلها بدين الاسلام .

كيف استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم ان يكون من عرب الجزيرة امة تحمل رسالة وتنشئ حضارة ، وتصنع تاريخا كأنه ضربا من الخيال وكيف جعلت رسالة الاسلام من الفرقة وحدة ، ومن الضعف قوة ، ومن الامية علما ، ومن البداوة حضارة ، ومن الحفاة العراة خير امة اخرجت للناس ؟

ذلك سر القران ودعوة الرحمن ، وعمل المنهج التربوي لرسول الله في تقويم النفوس والامم ، واثر تطبيقه في الجماعة والمجتمع .

لابد لإدراك حقيقة رسالة الاسلام من معرفة الميزان السليم الذي توزن به الدعوات ، هل توزن الدعوة بميزان القوة والاندفاع والاتساع ؟ لا… انما توزن الدعوات بما قامت عليه من افكار ، وبما تضمنت من خلق ، وبما احدثت من قيم ، وبما بلغ المؤمنون بها من سمو ، وبما امدت الحياة من مثل ، وبما اقرت فيها من موازين ، وذلك سر عظمة الاسلام ، فهو رسالة تربية قبل ان يكون رسالة تشريع ، ورسالة خلق قبل ان يكون رسالة جهاد ، ورسالة سمو قبل ان يكون رسالة كثرة واتساع .

وكذلك نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم سر عظمته انه على خلق عظيم ، وجوهر رسالته : خلق واحسان ووسيلتها : قدوة وتربية ، وأول ميادينها : النفس والضمير .

ومن ثم كان هدفها اقامة مجتمع انساني نظيف ، نظيف العقيدة ، ونظيف العلاقات ، ونضيف المشاعر والسلوك ، تبدا بالفرد وتقيم الاسرة على المودة والفضل والرحمة ، وتبني المجتمع على الحب والتكافل والعدل.

ولا يخفى ان للعبادة اثر مباشر بين العبد وربه ، وتربية على الاحساس بقرب الله وحبه .

فالصلاة لقاء ودعاء وذكر ومناجاة ، والصوم هجر لما تحبه النفس ايثارا لما يحبه الله ، والزكاة تطهير واحساس بالفضل والنعمة ، والحج زيارة لبلد الله وبيته واحساس بالضيافة والقرب ،

وحسب المؤمن من الحج احساسه بانه في ضيافة الله متعرض لنفحاته ومغفرته وفضله ، يعيش اياما متجردا من دنياه ، في جو ملؤه الحب والأنس بالله ، جو يعود به الى ذكرى جده ابراهيم فيسعى بين الصفا والمروة ، فيذكر سعي هاجر بحثا عن الماء ، وينحر الهدي فيذكر قصة الطاعة المؤمنة ، والحب وايثار ما عند الله ، انها التربية العملية على حب الله وطاعته .

ونعيش هذه الايام موسما من مواسم الطاعة

فقد ورد في فضل الايام العشرة من ذي الحجة ونحن في موسم من مواسم الطاعة احاديث كثيرة منها :

عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال : (ما لعمل في ايام افضل منها في هذه) قالوا : ولا الجهاد؟ قال : ( ولا الجهاد الا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء ) رواه البخاري رقم الحديث (969).

فما هي الاثار التربوية للعبادات في هذه الايام المباركات ؟

1 . التنبيه النبوي التربوي الى ان العمل الصالح في هذه الايام العشرة في شهر ذي الحجة افضل واحب الى الله تعالى منه في غيرها وفي ذلك تربية للنفس الانسانية المسلمة على الاهتمام بهذه المناسبة التي لاتحصل في العام الا مرة واحدة، وضرورة اغتنامها في عمل الطاعات القولية والفعلية، لما فيها من فرص التقرب الى الله تعالى.

2 . التوجيه النبوي التربوي الى ان في حياة الانسان المسلم بعض المناسبات التي عليه ان يتفاعل معها تفاعلا ايجابيا يمكن تحقيقه بتغيير نمط حياته، وكسر روتينها المعتاد بما صلح من القول والعمل، من هذه المناسبات السنوية هذه الايام المباركات التي تتنوع فيها انماط العبادة لتشمل مختلف الجوانب والابعاد الانسانية.

3 . استمرارية تواصل الانسان المسلم طوال حياته مع خالقه العظيم من خلال انواع العبادة المختلفة لتحقيق معناها الحق من خلال الطاعة الصادقة، والامتثال الخالص، وفي هذا تأكيد على ان حياة الانسان المسلم كلها طاعة لله تعالى من المهد الىاللحد.

فالعبادة بمعناها النفسي التربوي فترة رجوع سريعة من حين لآخر الى المصدر الروحي ليظل الفرد على صلة دائمة بخالقه.

4 . شمولية العمل الصالح المتقرب به الى الله عز وجل لكل ما يقصد به وجه الله وابتغاء مرضاته، سواءً كان ذلك قولا ام فعلاً وقد اشار النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث – برواية اخرى بقوله : ( العمل الصالح ) اي انه لم يحدد عبادة واحدة في هذه الايام، وانما في هذا تربية على الاكثار من الاعمال الصالحة، ففي تنوع العبادات بعداً تربوياً لاينبغي اغفاله فهو يغذي جميع جوانب النمو الرئيسية ( الجسمية والروحية والعقلية ) عند المسلم.

5 . حرص التربية الاسلامية على فتح باب التنافس في الطاعات حتى يقبل كل انسان على ما يستطيعه من عمل الخير كالعبادات المفروضة، والطاعات المطلوبة من حج وعمرة، وصلاة وصيام وصدقة وذكر ودعاء … الخ.

وفي ذلك توجيه تربوي لإطلاق استعدادات الفرد وطاقته لبلوغ غاية ما يصبو اليه من الفوائد والمنافع والغايات الاخروية المتمثلة في الفوز بالجنة، والنجاة من النار.

6 . تربية الانسان المسلم على اهمية احياء جميع السنن والشعائر الدينية بأنواعها طوال حياته، لاسيما وان باب العمل الصالح مفتوح لا يغلق منذ ان يولد الانسان وحتى يموت، انطلاقاً من توجيهات النبوة التي حثت على ذلك ودعت اليه.

نسأل الله ان يوفقنا لما يحب ويرضى، وان يفقهنا في ديننا، وان يجعلنا ممن عمل في هذه الايام – ايام عشر ذي الحجة – عملاً صالحاً خالصاً لوجهه الكريم.


X أرشيف مطبوعات الديوان


مجلة الرسالة الاسلامية



مجلة عيون الديوان



مجلة بنت الاسلام



مجلة الامة الوسط



مجلة والذين معه