24 / 09 / 2014

الاخلاق رسالة

هبة رامي

ماجستير علم اجتماع

الأخلاق: مشترك إنساني عام من القيم والفضائل التي جبل الله الناس عليها، فأصناف البشرية كلها تعترف بالمعاني الفاضلة والأخلاق العالية ونوَّه الإسلام بمحاسن الأخلاق، وحثَّ على تهذيبها تهذيبًا لائقًا؛ ذلك أنها فضيلة من أعظم الفضائل، فإن شرف المطلوب بشرف نتائجه، وبحسب منافعه تجب العناية به، وعلى قدر العناية به يكون اجتناء ثمرته، وهو صفة النبي الأمين، وأفضل أعمال الصدِّيقين؛ لذلك فإن من أهم المهمات التخلق بالأخلاق الكريمة التي دعا إليه الإسلام؛ ولقد رفع الله – عز وجل – من شأن الأخلاق عندما امتدح نبيَّه – صلى الله عليه وسلم – بقوله: (( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)) (القلم: 4)، وقد بيَّن – صلى الله عليه وسلم – أهداف بعثته عندما قال – صلى الله عليه وسلم -: ((إنما بعثت لأتمم حسن الأخلاق))؛

وهذا معنى أصالة الأخلاق وعظمتها وقوتها وسيادتها الفعلية على منظومة القيم الإنسانية، وذلك معنى فطرية الأخلاق، فالفطرة فيها أصول الأخلاق التي يحتاجها الإنسان، حتى إن الجاهلية الأولى كان العرب فيها يمتدحون مكارم الأخلاق، ويعدونها دليلاً على عقل الرجل وسيادته، فكانوا يمدحون الصدق والأمانة والكرم والشجاعة وغيرها، ولو قرأت في تراث كل أمة فستجد عندها قدراً معروفاً من أصول الأخلاق.

وقوة الأخلاق تبدو حين نختلف، وهناك من يستخدم أخلاق القوة للضرب تحت الحزام كما يقولون، واستخدام نقاط الضعف والفجور في الخصومة، فيطيح بكل القيم الأخلاقية لأدنى اختلاف، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن من آية المنافق أنه « إذا خاصم فجر »، لكن قوة الأخلاق في العفو والعفة عن نقاط الضعف، وقول الحق حتى على النفس(( يَا اَيُّهَا الَّذِينَ امَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى اَنْفُسِكُمْ )) (النساء:135) .

وقوة الأخلاق تبدو أيضاً عند الانشغال الشديد والفراغ، فيفقد الإنسان هدوءه وتتوتر أعصابه، فيظهر أولو العزم من أصحاب الأخلاق رابطي الجأش، فلا يقولون إلا خيراً، كما كان يفعل نبينا صلى الله عليه وسلم حين يجر أحد الأعراب رداءه فيظهر الأثر على صفحة عنقه، أو يتكلم عليه أحد المنافقين، أو يطالبه بدين أحد اليهود ، ولقد أجمل القرآن وصف خلقه فقال: (( ‏وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم )) (القلم:4) .

سُئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت : ( لم يكن فاحشا , و لا متفحشا , و لا صخابا في الأسواق , و لا يجزي بالسيئة السيئة , و لكن يعفو و يصفح )

وهذا عبد الله بن سلام -وكان يهودياً- يقول: (( لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس إليه، فكنت فيمن جاءه، فلما رأيت وجهه واستبنته علمت أن وجهه ليس بوجه كذاب)) أخرجه الترمذي وابن ماجة .

إن الأخلاق الراقية هي تلك التي تسمو بالإنسان، فتُجمِّل طبائعه، وتُرَقِّي خُلُقَه، وتُـحسِّن صفاتِه، وقد كان نبينا – صلى الله عليه وسلم – في أرقى مستويات الخلق البشري، فقد جمع الصفاتِ النبيلة، والأخلاق الراقية، يقول ابن القيم: (( ومما ينبغي أن يُعْلم: أن كل خصلة من خصال الفضل قد أحلَّ اللهُ رسولَه في أعلاها، وخصَّه بذروة سنامها)).

و الأخلاق الحسنة ركن ثابت في الإسلام، حثَّ عليه، ودعا إليه، فنجد النبي – صلى الله عليه وسلم – يقرنه بتقوى الله، ويجعله سببًا في دخول الجنة؛ ذلك لشرف فضله، وفوائد نتائجه، ويبلغُ صاحبُ الخلق الراقي الحسن من الشرف وجزيل الأجر – الدرجاتِ العلى؛ فقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((إن المؤمن لَيدركُ بحسن خلقه درجةَ الصائم القائم))؛ (أخرجه أبو داود)
وقد بيَّن النبي – صلى الله عليه وسلم – فضائلَ الخلق الحسن في أحاديثَ كثيرةٍ، منها قوله – صلى الله عليه وسلم -: ((البِرُّ حسن الخلق))؛ (أخرجه البخاري)، وقوله – صلى الله عليه وسلم -: ((إن من أحبِّكم إليَّ، وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة – أحاسنَكم أخلاقـًا))؛ (أخرجه الترمذي)، وسئل – صلى الله عليه وسلم -: أي الأعمال أفضل؟ فقال: ((حسن الخلق))، وسئل عن أكثر ما يُدْخل الجنة، فقال: ((تقوى الله، وحسن الخلق)).
وما اجمل صفا الصحابة واخلاقهم كيف لا وهم صحابة المصطفى صلى الله عليه وسلم تخلقوا بخلقه واكتسبوا منه محاسن الاخلاق ومن أخلا‏قهم رضي الله تعالى عنهم :

أثنى عليهم الله فقال عنهم في كتابه الكريم :(( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)) (الفتح: 29)

((أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)) (المائدة: 54)

ووصفهم بالرجوله و عرفها فقال: ((رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ)) (النور: 37)

ومن اخلاقهم رضي الله عنهم:

اجتمع الصحابة في مجلس .. لم يكن معهم الرسول عليه الصلاة والسلام .. فجلس خالد بن الوليد .. وجلس ابن عوف .. وجلس بلال وجلس أبو ذر .. وكان أبو ذر فيه حدة وحرارة فتكلم الناس في موضوع ما .. فتكلم أبو ذر بكلمة إقتراح : أنا أقترح في الجيش أن يفعل به كذا وكذا .

قال بلال : لا .. هذا الإقتراح خطأ .

فقال أبو ذر : حتى أنت يابن السوداء تخطئني .!!!

فقام بلال مدهوشا غضبانَ أسفا .. وقال : والله لأرفعنك لرسول الله عليه الصلاة والسلام .. وأندفع ماضيا إلى رسول الله .

وصل للرسول عليه الصلاة والسلام ..وقال : يارسول الله .. أما سمعت أبا ذر ماذا يقول في ؟

قال عليه الصلاة والسلام : ماذا يقول فيك ؟؟

قال : يقول كذا وكذا

فتغير وجه الرسول صلى الله عليه وسلم ..وأتى أبو ذر وقد سمع الخبر .. فاندفع مسرعا

إلى المسجد .. فقال : يارسول الله .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

قال عليه الصلاة والسلام : يا أبا ذر أعيرته بأمه ، إنك امرؤ فيك جاهلية .!!

فبكى أبو ذر رضي الله عنه.. وأتى الرسول عليه الصلاة والسلام وجلس .. وقال يارسول

الله استغفر لي .. سل الله لي المغفرة ثم خرج باكيا من المسجد .. وأقبل بلال ماشيا ..فطرح أبو ذر رأسه في طريق بلال ووضع خده على التراب ..وقال : والله يابلال لا ارفع خدي عن التراب حتى تطأه برجلك .. أنت الكريم وأنا المهان فأخذ بلال يبكي .. وأقترب وقبل ذلك الخد ثم قاما وتعانقا وتباكيا .

شتم رجلٌ أبا ذر فقال له :(( إن بيني وبين الجنه عقبة ان جزتها فأنا خير مما تقول وإن عرج بي دونها الى النار فأنا شرٌ مما قلت , فانته ايها الرجل فإنك تصير الى من يعلم خائنتة الأعين وما تخفي الصدور))

شتم رجلٌ ابن عباس حبر الأمة فلما أنهى كلامه قال له :(( ياعكرمه انظر هل للرجل حاجة فنقضيها)) ,فنكس الرجل رأسه واستحى

شتم رجل عمر رضي الله عنه فلقيه عمر فقال: ((ياهذا لاتفرط في شتمنا وأبق للصلح موضعا فإنا لانكافئ من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه )).

قيل: أن رجلا خاصم الأحنف بن قيس وقال: (( لئن قلت واحده لتسمعن عشرا)) فقال له (( لكنك ان قلت عشرا لم تسمع واحدة ))

وهذا الربيع بن خثيم حينما سرقت فرسه وكانت تقدر بعشرين ألفا وقيل له: ادع الله على السارق فقال:

(( اللهم ان كان غنيا فاغفر له وان كان فقيرا فاغنه))

ومن أجمل ما قيل في صفات الأخلاق الراقية: قول الحسن البصري: (( حسن الخلق: بسطُ الوجه، وبذلُ النَّدى، وكفُّ الأذى))

ويقول عبدالله بن المبارك: (( حسن الخلق في ثلاث خصال: اجتناب المحارم، وطلب الحلال، والتوسعة على العيال))، وقال آخر: (( حسن الخلق: أن تكون من الناس قريبًا، وفيما بينهم غريبًا)).

ويقول الإمام مالك: (( إن العبد لَيبلغُ بحسن خلقه أعلى درجة في الجنة، وهو غير عابد، ويبلغ بسوء خلقه أسفلَ درك في جهنم، وهو عابد)). وسئل ابن عباس عن الحسب؟ فقال: (( أحسنُكم خلقًا أفضلُكم حسبًا))، وقال: ((لكل بنيان أساس، وأساس الإسلام حسن الخلق)).

وفي الصحيح أن هشام بن حكيم سأل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت ( كان خلقه القرآن ) فقال : لقد هممت أن أقوم ولا أسأل شيئاً

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم ( إن العبد ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم )

وقال صلى الله عليه وسلم ( وأعظم ما يدخل الناس الجنة تقوى الله وحسن الخلق )

وقال صلى الله عليه وسلم ( حسن الخلق وحسن الجوار يعمران الديار ويزيدان في الأعمار )

وقال صلى الله عليه وسلم ( أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً ) .

وقال صلى الله عليه وسلم( إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة ، أحاسنكم أخلاقاً ) .

فالأخلاق القوية الحقيقية وعاء يستوعب حياة الإنسان كلها، فتتبين الأخلاق القوية بالدأب والصبر والمداومة وإتمام الخلق، يقول أبو حامد الغزالي: (( إن أخلاق الإنسان الحقيقية هي أخلاقه بالمنـزل)) . أي: لمداومته على حسن الخلق  والتلطف حتى في بيته.

سأل الخليفة هارون الرشيد أبا يوسف قاضى القضاة فى عهده عن أخلاق الإمام أبى حنيفة

فقال : أبو يوسف : كان والله شديد الدفاع عن حرمات الله مجابهاً لأهل الدنيا ، طويل الصمت

دائم الفكر ، لم يكن مهزاراً ولا ثرثاراً ، إن سئل عن مسألة كان له فيها علم أجاب ، وما علمته

يا أمير المؤمنين إلا صائناً لنفسه ولدينه ، مستقلاً بنفسه عن الناس لا يذكر أحداً إلا بخير .. ….

فقال الرشيد ( هذه أخلاق الصالحين ) .

و جمع بعضهم علامات حسن الخلق فقال : هو أن يكون كثير الحياء قليل الأذى ، صادق اللسان ،

قليل الكلام ، كثير العمل ، قليل الزلل ، قليل الفضول براً وصولاً وقوراً صبوراً شكوراً حليماً

لا لعاناً ولا سباباً ولا نماماً ولا مغتاباً ولا حقوداً ولا بخيلاً يحب فى الله ويبغض فى الله ويرضى فى الله ويغضب فى الله فهذا هو حسن الخلق .

وقوة الأخلاق هي أيضا القوة الخلقية الداخلية في صفاء النفس وصدقها، وهذا معنى عظيم من معاني الأخلاق وقوة الأخلاق هي في الحكمة ووضع الأمور في مواضعها، وقوة الأخلاق في العدل وترك الظلم، وإشاعة ذلك في حقل العلم والمعرفة، وحقل التجارة والصناعة، وحقل السياسة، وحقل السلوك والتعامل الاجتماعي، وكل الحقول الأخرى. كل ذلك لن يحصل إلا بالمجاهدة: (( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا )) (العنكبوت:69)، والمحاسبة: (( ‏وَلَا اُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَة )) (القيامة:2)، ودعم الجوانب الفطرية في الإنسان وتوجيهها لخلق الخير والبر.

إن قوة الأخلاق تغلب أخلاق القوة، وإن سخط الناس أو رضوا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (( ليس الشديد بالصرعة، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب )) قال ذلك تصحيحاً للمفاهيم المشوهة المشوشة عند الناس حول القوة. فليس القوي الذي يقاتل ويصارع، وإنما القوي الذي يملك نفسه عند القتال والصراع، ويخالق الناس بخلق حسن.

ويقول الشاعر:

إِذَا لَمْ  تَتَّسِعْ  أَخْلاَقُ  قَوْمٍ        تَضِيقُ بِهِمْ فَسِيحَاتُ البِلاَدِ
إِذَا مَا المَرْءُ لَمْ  يُخْلَقْ  لَبِيبًا        فَلَيْسَ اللُّبُّ عَنْ قِدَمِ الوِلاَدِ

X أرشيف مطبوعات الديوان


مجلة الرسالة الاسلامية



مجلة عيون الديوان



مجلة بنت الاسلام



مجلة الامة الوسط



مجلة والذين معه