24 / 09 / 2014

التراث الديني في شعر المتنبي

الأستاذ المساعد الدكتور

سلام احمد خلف الدليمي

كلية الآداب / جامعة بغداد

يعد التراث الديني مصدراً الإلهام الأولي عند المبدعين فيرتبط الدين بحياة الناس اليومية والمعيشية ارتباطاً وثيقا ، ويحتل دوراً كبيراً في تشكيل الوجدان التراثي للأمة .

ويتمثل التراث الديني في الكتب السماوية المقدسة وما يحيطها من أبعاد دينية أخرى ، فالقرآن الكريم والكتاب المقدس مثلاً كانا مصدرين أساسيين استفاد منهما الشعراء وحاورهما في عصور الأدب بعد عصر صدر الإسلام في كثير من المواقف .

توظيف القرآن الكريم في شعر المتنبي

كان القرآن الكريم مكوناً أساسياً من مكونات ثقافة أبي الطيب المتنبي ، وقد تضافرت عوامل متعددة وجهته لدراسته أهمها : نشأته الدينية المبكرة في الكوفة ، حيث هُيئت له علاقة مبكرة بكتاب الله ، فحفظ أجزاء كبيرة منه ، كان يستند عليها في المناقشات التي دارت بينه وبين أملى عليهم ديوانه ، وبين من ناظره في كثير من ( مسائل النحو واللغة ) ، ومن ذلك احتجاجه ببعض الآيات في ملاحظاته النقدية التي وجهها لغيره من الشعراء ، ومن الأمثلة على ذلك نقده للأعشى في قوله :

وهل تنكر الشمس شمس النهار         والقمر الباهر الأبرص

فعاب على الأعشى استخدام لفظة الأبرص قائلاً : ولو كانت لفظة الأبرص في كتاب الله لكدرت شرب بلاغته ، ولما أراد الله تعالى ذكره كنى عنه بأحسن كناية من قوله :

جل اسمه ( بيضاء من غير سوء ) ، وكذلك وظف المتنبي معاني القرآن الكريم وألفاظه في شعره وتنوعت إفادة المتنبي من القرآن الكريم ، فيستوحي كثيراً من آياته في شعره ، ومن ذلك قوله : يعطي فلا مطله يكدرها             بها ولا منه ينكدها

فممدوح المتنبي محمد بن عبيد الله العلوي لا يمطل قبل العطاء ولا يمن بعده ، ولا ينغص العطية ، ولا يقلل خيرها ، فالمنة تهدم الصنيعة ، وهذا المعنى مستوحى من قولى تعالى : ((   يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى)) ، وقال يمدح الحسين بن علي الهمداني :

بمن تشخص الأبصار يوم ركوبه         ويخرق من زخم على الرجل البرد

وتلتقي وما تدري البنان سلاحها       لكثرة إيماء إليه إذا يبدو

فإذا رأى الناس هذا الممدوح ، انشغلوا برؤيته والإيماء نحوه ، فيلقون ما بين أيديهم من السلاح وهم لا يشعرون ، وهو في هذا البيت يتواصل مع قوله تعالى : ((فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ)) ، والرابط بين البيت والآية فرط الدهشة والمفاجأ ة .

وقال يمدح محمد بن عبيد الله العلوي :

أثر فيها وفي الحديد وما         أثر في وجهه مهندها

فاغتبطت إذ رأت تزينها       بمثله والجراح تحسدها

إن الضربة فرحت بحصولها بوجه الممدوح ، فحسدت بقية الجراح هذه الضربة ، لأنها لم تصادف شرف محلها ، وبخاصة أن العرب تفتخر بالضرب في الوجه ، وهو في معناه متأثر بقوله تعالى : ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ )) ، وأرسل أبو العشائر بازيا على حجله فقتلها بمخالبه ، فقال المتنبي في ذلك :

فأقعصها بحجن تحت صقر       لها فعل الأسنة والرماح

فقلت لكل حي يوم موت         وإن حرص النفوس على الفلاح

فيؤكد المتن بأن كل حي مصيره الموت مهما صارع في سبيل البقاء ، وهو في هذا المعنى يستوحي قوله تعالى ((لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ )) ، وقوله تعالى : ((كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ )) ، وقال في وصف فعل السيوف :

واستعار الحديد لوناً وألقى         لونه في ذوائب الأطفال

فالسيوف ألقت ألوانها البيضاء على ذوائب الأطفال لشدة ما نالهم من الفزع ، فغزا الشيب رؤوسهم وهم في مقتبل العمر ، وهو في هذا البيت يستوحي قوله تعالى : (( فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً )) ، وقال يمدح سيف الدولة ويذكر نهوضه إلى الثغر :

بسط الرعب في اليمين يميناً         فتولوا وفي الشمال شمالا

إن الرعب قد عم قلوب أعداء ممدوحه , حتى كأنه بسط يمينه في ميمنة جيشهم ، بسط شماله في مسيرته فولوا هاربين ، وهو في هذا المعنى نظر إلى قوله تعالى : ((يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ )) ، فالآية الكريمة تدل على أن الكافرين يرون المؤمنين ضعيفهم في العدد ، لأن الله أكثر المؤمنين في أعين الكافرين ، ليرهبوهم ، ويسجنوا عن قتالهم ، فالرابط بين الآية وقول المتنبي هو الخوف الذي يكتنف الأعداء ورهبتهم من قتالهم المسلمين وجبنهم أمامهم .

وقد استوحى المتنبي في شعره بعض ألفاظ الآيات في رسم صوره الشعرية اللافتة ، حيث يصف المتنبي خيل سيف الدولة الحمداني ، فهي تتمتع بقدرة خارقة وأفعال معجزة وغير متوقعة ، وهي تعكس حال الممدوح وطموحات المتنبي لأنها سريعة السير في الأرض كما تسير النجوم في السماء ، وسريعة الانقضاض على الأعداء ، فتقذفهم بسرعة وتقصيهم من جميع الاتجاهات ، كما تقذف النجوم مردة الشياطين عند استراقهم السمع وتقصيهم . فكلمة القذف تحمل دلالة سرعة الرد وقوته ومنع الحمى من أي معتد ، وكذلك الشهب بما تملكه من زجرك لمن يقصد السماء من مردة الشياطين ، ومنعه من الوصول وهذه الصورة مستوحاة من قوله تعالى : ((لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإٍ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ )) ، ومثلما تظل النجوم مرتبطة بنظام ، يسير بامر الله سبحانه وتعالى وإرادته ، تظل خيل الأمير مرهونة بأمره وإرادته ، ويوظف المتنبي أحياناً لفظة من القرآن الكريم نحو قوله :

وبأيامه التي انسلخت عنـ      ـه وما داره سوى الهيجاء

إذ طلب كافور إلى المتنبي أن يصف داراً ابتناها ، فبين أن فخر كافور بما ابتناه من المعالي لا من الدور والطين ، وبأيامه التي قضاها في محاربة الأعداء ، فاستعار الفعل انسلخ من قوله تعالى : ((وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ )) ، فاستعمال الفعل انسخلت بدلاً من مضت ، تومئ بأن هذه الأيام جزء من ذات الممدوح لا يتجرأ ، فهي والممدوح شيء واحد متكامل ، كما أن الليل والنهار يشكلان يوماً واحداً متكاملاً ، والأشهر الحرم مع باقي أشهر السنة تشكل سنة واحدة متكاملة .

ويستدعي المتنبي صوراً من القرآن الكريم ’ ومن الأمثلة على ذلك وصفه هيبة ممدوحه سعيد بن عبدالله المنبجي بقوله :

وضاقت الأرض حتى كان هاربهم         إذا رأى غير شيء ظنه رجلا

حينما رأى بنو تميم هذا الممدوح مقبلاً عليهم ، تركوا منازلهم هاربين خوفاً منه ، فمن شدة الخوف والفزع كانوا إذا ما رأى أحدهم شيئاً ضعيفاً كان أم قوياً ومخيفا أم غير مخيف ظنه رجلاً من أصحابه يريد أن يقتله من تصور هيبته في قلبه وتمكن الخوف منه ، وهذه الصورة استقاها المتنبي من قوله تعالى : ((وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ )) ، إذ نقل صورة المسلمين المنهزمين في وقعة حنين استبد بهم الخوف وعكسها على أعداء ممدوحه . والهارب والمنهزم شتى الرأي متوزع القلب ، يرى ما لا يرى ، ويسمع ما لا يسمع ، ويستشف من عبارة ضاقت الأرض أن ممدوحه أحاط بأعدائه من كل جانب حتى أنه لم يعد هناك مسلك للهاربين .

كما اقتبس المتنبي من قصص القرآن الكريم فاستوحى المتنبي قصة قميص يوسف (عليه السلام ) كما ورد في قوله تعالى : (( اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ )) ، ليبين حب كافور للكرم ، وأنه صفة متأصلة فيه ، فلا يرد سائلا يقصده ، بل أن من يطلب عطاءه يشعره بالفرحه الغامرة ، كفرحة يعقوب (عليه السلام ) عندما ألقي عليه قميص يوسف (عليه السلام ) وهناك من يفسر استيحاء قصه يعقوب (عليه السلام ) بقوله ، وقد أقام الشاعر تناظراً بين هذه الألفاظ القرآنية ( يقصد : قميص ، يوسف ، يعقوب ) وجزالة عطاء الممدوح ، فكما أن الممدوح لا يرد سائلاً ويفرح بسؤله ، فإن قميص يوسف أعاد البصر إلى يعقوب ( عليه السلام ) فكأنه لا يرد له شأن فهناك علاقة تبادلية بين القميص وعطاء الممدوح .

وتعلق هدى الأرناؤوطي على هذا البيت : وحين نذكر ما كان يضمره المتنبي من احتقار لكافور يغلب على ظننا أنه ضمن البيت تلميحاً خفياً إلى أن كافوراً لم يكن ممن اعتاد الملك من الشعراء وغيرهم . فقدوم هؤلاء عليه يحمل رونق المفاجأة التي حملها قميص يوسف لأبيه ، وفيه فخر بنفسه ، إذ هو أحد السائلين الذين كان لزيارتهم لكافور صدى عميق أشبه بالفرحة التي غمرت قلب يعقوب

اما موسى ( عليه السلام ) فقد تواصل معه المتنبي في مواضع عدة ، ومن ذلك قوله :

ما كنت آمل قبل نعشك أن أرى       رضوى على أيدي الرجال تسير

خرجوا به ولكلّ باكٍ خلفه           صعقات موسى يوم دك الطور

فاستعار المتنبي قصة موسى ( عليه السلام ) ، والجبل الذي خر صعقا ً من خشية الله – عز وجل – في رثاء محمد بن اسحق التنوخي ، ليبين وقع المصاب في نفوس قومه ، إذ ملك الحزن قلوبهم ، فخرجوا في جنازته باكين ، فأخذتهم الخشية لفرط تأثرهم ، وكأنها الصعقات التي أصابت موسى (عليه السلام ) يوم دك الطور .

أما قصة انشقاق البحر لموسى (عليه السلام ) ، فقد وظفها المتنبي في قصيدة مدح بها محمد بن زريق الطرموسي فيقول :

أو كان لج البحر مثل يمينه         ما انشق حتى جاز فيه موسى

وقد استوحى المتنبي هذه القصة حين يصف كرم ممدوحه وقوته اللذين لا حدود لهما فهو أقوى وأجود من البحر ، فللممدوح من القوة ما لو توافرت في البحر لقاوم عصا موسى (عليه السلام ) المؤيدة بإرادة الله ، ولما انشق البحر أمامه ، وكذلك فإن عطاءه قد شمل الجميع دون تمييز ، أما البحر فقد ميز بين الناس بالجود ، حيث أغرق فرعون ومن معه ، وجاد على موسى – عليه السلام – وأتباعه بالحياة ، فلو كان البحر مثل كفه في الجود لما انشق لموسى ، فالمتنبي يرى في ممدوحه النموذج والمثال الذي يتمناه في القوة والشجاعة والحكمة وحسن الرأي ، ورأى فيه رجاء الناس رغبة في رضاه وعطائه ، ورهبة من غضبه وسخطه وسفيه .


X أرشيف مطبوعات الديوان


مجلة الرسالة الاسلامية



مجلة عيون الديوان



مجلة بنت الاسلام



مجلة الامة الوسط



مجلة والذين معه