03 / 07 / 2014

الظل الرباني

د. محمود ابراهيم

من فضل الله – سبحانه وتعالى – أنْ جعل بعض الأعمال ينال صاحبها جزاءاً خاصاً لتميزه بهذا العمل . وهذا فيه حث وترغيب في أمور كثيرة من الخير ، ومن هذه الأعمال التي تميز صاحبها وتجعله ممن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل الا ظله ففي ذلك اليوم يُعدم الظل، فليس ثَمَّ إلا ظلُّ ربّ العزة والجلال، لا يَستظِلُّ فيه إلا من سبقت له الحسنى من ربه، فتَقبَّلَ منه صالحة أوجبت له الزلفى لديه، كرماً منه – سبحانه- وفضلاً.

ومن تلك الصالحات سبع خلالٍ طيبة، متعددةُ المشارب، متحدةُ المعنى، بيّنها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم في قوله : ((سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تعالى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَدْلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي المَسَاجِدِ، وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ)) رواه البخاري ومسلم .

تلكم سبعة أوصاف تضم خَلْقاً لا يعلمهم إلا الله – عسى الله أن يجعلنا منهم -، تنوعت صورها؛ فليس فيها مشتبهان ، غير أن معناها متطابق؛ فالمعنى الجامع بينها: إخلاص العمل لله ، ومجاهدة النفس ومخالفة الهوى ، وكمال العبادة؛ فكان دون أدائها صبرٌ وتحملُ شدة واصطبارٌ على لظى المجاهدة، أثابهم الله بها ظلاًّ يوم تناهى وهج الشمس ؛ إذ الجزاء من جنس العمل.
أما أول هذه الصفات :العدل في الولاية (إمام عادل) قد استوى الناس في عدله، فذلك من أحب العباد إلى الله لعظيم أثره في الناس، فالناس على دين ملوكهم يصلحون بصلاحهم لذا قُدِّم ذكرُه، وصار من أقرب الناس نزلاً عند الله في مجلسِ منبرٍ عن يمين الرحمن، كما صح بذلك الخبر؛ جزاءً لتوفيته واجب الإمارة، ومجاهدته نوازع أهواء الدنيا . وإن هذا الفضل ليُرجى لكُلِّ مَنْ وَلِيَ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ فَعَدَلَ فِيهِ، كالقضاء والوزارة والإدارة.
وثاني الأوصاف: الطاعة مدة الشباب، (وشاب نشأ في طاعة الله) فكانت الطاعة وصفاً غالباً لمرحلة العمر بين الطفولة والشيخوخة، تلك المرحلة التي يقوى فيها داعي الشهوة ونوزاع الهوى؛ كما قيل : الشباب شعبة من الجنون، فإذا ما انخلع الشاب من ربقتها، وسلم من شرها، وتجافى لطاعة ربه مع قوة الصارف، عوِّض هذا الجزاءَ؛ لعظم البلاء، وكمال الطاعة لله.
وثالث الأوصاف: تعلق القلب بالمسجد ( ورجل قلبه معلق بالمساجد )، وفي رواية مالك: ((إذا خرج مِنْهُ حَتَّى يعود إِلَيْهِ)) فهو يحب المسجد ويألفه لعبادة الله فِيهِ، فإذا خرج مِنْهُ تعلق قلبه بِهِ حَتَّى يرجع إِلَيْهِ؛ واستحق مدحَ الله في قوله : ((فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (36) رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمْ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38))) ( سورة النور:36 – 38 ) .
ورابع الأوصاف:  تصفية المحبة لله :(وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ ) فالمتحابان فِي الله جاهدا نفسيهما فِي مخالفة الهوى حَتَّى صار تحابهما وتوادهما فِي الله من غير غرض دنيوي يشوبه، وهذا عزيز جداً؛ إذ الهوى داع إلى التحاب فِي غير الله؛ لما فِي ذَلِكَ من طوع النفس أغراضَها من الدنيا.
وخامس الأوصاف: العفة عن الفاحشة مع تيسرها وقوة داعيها (وَرَجُلٌ طَلَبَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ ) ، فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ. فالداعية إلى الفاحشة امرأة جميلة رفيعة القدر في الدنيا، والمانع من إجابتها خوف الله، الذي تواطأ عليه قلب ذلك العفيف وقوله؛ فكان لسان حاله ومقاله واعظاً لتلك المرأة؛ علّها أن ترعويَ عن غيّها، وتثوبَ إلى رشدها؛ فنال بتلك العفة الكاملةِ الناشئةِ عن خوف ربه رضاه؛ فأظله في ظله.
وسادس أوصاف : من يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تعالى فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ ؛ (إخفاء الصدقة) وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُه ذاك رَجلٌ تصدق بصدقة قليلة كانت أو كثيرة، فاجتهد فِي إخفائها غاية الاجتهاد حَتَّى لَمْ يعلم بِهِ إلا الله، وضُرِبَ المثلُ لذلك الإخفاء عَلَى طريق المبالغة حَتَّى لا تعلم شماله مَا تنفق يمينه.

وسابع الأوصاف:البكاء من ذكر الله حال الخلوة : (وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِياً ، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ) ، فهذا رَجُلٌ يخشى الله فِي سِرّه، ويراقبه فِي خلوته، وذلك كمال الخشية. وأفضلُ الأعمال خشية الله فِي السِّر والعلانية . وخشية الله فِي السِّر إنما تصدر عَن قوة إيمان ومجاهدةٍ للنفس والهوى؛ فإن الهوى داعٍ لاقتراف ذنوب الخلوات؛ ولذا قيل: (( إن من أعزّ الأشياء الورعَ فِي الخلوة )) .

وذكر الله حال الخلوة يشمل ذكر قوته وبطشه وعقابه واطلاعه والحياء منه، وينشأ من ذلك بكاء الخوف، ويكون ذلك الذكر ذكراً لألطافه ونعمته ورحمته وبره؛ وينشأ من ذلك بكاء الشوق والرجاء. وكلها مشمولة في معنى الحديث وفضله. ولا يشترط في هذا الذكر نطق اللسان، بل يكفي ذكر القلب، وإن تواطأ اللسان معه فخيرٌ ضُمّ لخير.

هذا، وإن الفضل الوارد في الحديث لا يحصر في الرجل، فالمرأة لها ما له فيه إلا في الولاية العظمى وتعلق القلب في المسجد؛ إذ ليست من أهلها شرعاً.
هذه سبع من أسباب الاستظلال بظل الله، وثمة غيرها، فاظفر بواحدة منها تفز بذلك الظل يوم الحرّ الشديد، وإن علت همتك فاضرب فيها بأكثر من سهم؛ فتلك تجارة رابحة وفضل مدخر ليومٍ شديدِ الفاقة.


X أرشيف مطبوعات الديوان


مجلة الرسالة الاسلامية



مجلة عيون الديوان



مجلة بنت الاسلام



مجلة الامة الوسط



مجلة والذين معه