07 / 09 / 2014

الكرم والجود النبوي في شهر رمضان

نجاة عبد الجبار

ما الجديد الذي قدمه شهر رمضان إلى الإنسانية ؟ سؤال قد يتبادر إلى ذهن أي منا ، ليجد الإجابة فيمن نظر إلى عقيدة الاسلام ومنهجه وتأريخه بإنصاف وعدالة… لقد جاء شهر رمضان المبارك للعالم بمعطيات كثيرة، منها : النبي والكتاب أو الزعيم والمنهاج ، فقامت عليهماأعظم نهضة مباركة شهدتها البشرية، وتمت بها أضخم رسالة، فكان النبي والزعيم هو محمد بن عبد الله – صلى الله عليه وسلم- ،وكان الكتاب والمنهاج هو القرآن الكريم، وكانت الرسالة : الإسلام وهو دين الفطرةوالخلود وإحياء أمة هي مثال الارتقاء بالإنسانية ، خير أمة أخرجت للناس، ثم تأسيس دولة هي أعدل، وأطهر دولة ظهرت فيالوجود.

وشهر رمضان هو من تيجان هذه الأمة ذات الرسالة الخالدة، ومن خصائص هذا الشهر الفضيل: الكرم والجود، ففي الصحيحين عن عبد الله بن عباس – رضي الله عنهما – قال: (كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيُدارِسه القرآن، فلرسول الله – صلى الله عليه وسلم – أجود بالخير من الريح المرسَلة).

والجود والكرم بهذا المعنى رسالة وخُلُق من أخلاق رسولنا – صلى الله عليه وسلم – الذي جبَله عليه رب العالمين، ونصيبه من الكرم والجود هو الحظ الأوفر والمكان الأسمى؛ ففي الصحيحين عن أنس – رضي الله عنه – قال: (كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أحسن الناس وأشجع الناس وأجود الناس)… في شهادة لأفضل الخلق وسيد الناس من أفضل جيل وأكمل مجتمع.

والجود في ادق معنى هو البذل والعطاء، ليس في المال فحسب، بل في المال والعلم والوقت والجاه، وبذْل النفس لله تعالى وغير ذلك، وقد وصفت أم المؤمنين خديجة – رضي الله عنها – رسول الله – عليه الصلاة والسلام- بقولها: (والله لا يُخزيك الله أبدًا، إنك لتَصِل الرحم، وتَقرِي الضيف، وتَحمِل الكلَّ، وتُكسِب المعدوم، وتُعين على نوائب الحق).

ويكتسب الجود معناه في سيرة النبي – صلى الله عليه وسلم- حين ندرك إن الصوم تجتمع فيه معاني الصبر الثلاثة:

1/ الصبر على ألم الجوع والعطش.

2/ الصبر عن المعاصي، وقد أرشدنا النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى ذلك بقوله: (من لم يدع قولَ الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: (إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل، فإن سابَّه أحد أو قاتله أحد، فليَقُل: إني امرؤ صائم).

فلابد أن يصبر الإنسان عن معصية الله – عز وجل – في هذا الشهر، ولا يتبع هواه بشهوة تَذهَب لذاتها وتبقى تَبِعتها، او كما يقال : تذهب الشهوة وتبقى الشقوة، ويُعينه على صبره عن شهواته مشهدُ قهره لشيطانه والظِّفَر به، ومشهد العِوض وهو ما وعد الله – سبحانه – من تعويض مَن ترَك الحرام، ومشهد البلاء والعافية، فإن البلاء ليس إلا الذنوب، والعافية المُطلَقة هي الطاعات وعوافيها.

3/ الصبر على طاعة الله – عز وجل – يتحقَّق في رمضان بكثرة العبادة، ففيه الصوم، وفيه المحافظة على الصلاة، وفيه التهجد، وفيه تلاوة القرآن، وفيه الصدقة والجود، وفيه الإحسان إلى الخَلق، وفيه بِر الوالدين، وغير ذلك من أنواع الطاعات.

ومن صور كرمه وجوده – صلى الله عليه وسلم – جوده بالعلم:

وذلك بتعليم الجاهل، وبذْله – عليه الصلاة والسلام- للسائل الجواب أفضل وأكثر من سؤاله، فمثال ذلك عندما سئل عن الوضوء بماء البحر: قالوا: يا رسول الله، إنا نركب البحرَ ونحمل معنا القليل من الماء، فإذا توضَّأنا منه عطِشنا، أفنتوضَّأ بماء البحر؟ قال: (هو الطهور ماؤه الحِل ميتته).

فتضمَّن جوابه أنواعًا من العلم جاد بها أكثر من سؤال السائل،ويمكن أن يستفاد من هذه الإجابة في مواضع أخرى، منها:أعطاه حكمًا عامًّا لماء البحر، سواء كان الحال على ما جاء في سؤال السائل، أم كان غير ذلك، إذ لا يَلزم لاستعماله أن يكون معه ماء قليل يخشى العطش إذا استعمله.

وكذلك:أنه –عليه الصلاة والسلام- أعطاه حكمًا آخر لم يسأل عنه السائل، وهو حُكْم ميتة البحر، ولا شك أن السائل وغيره قد يحتاج إليه؛ إذ كونه جَهِل حُكْم الماء مع العلم بطهوريته، فهو من باب أولى يجهل حكم ميتة البحر، فقال – صلى الله عليه وسلم -مبينًا حُكْم ميتة البحر: (الحِلُّ ميتته) في إشارة إلى جواز أكل ميتة البحر.

ومن جوده – صلى الله عليه وسلم – جوده في مجال الصبر واحتماله لأذى الغير، وفي مقدمتهم المشركون: ودليل ذلك ما ورد في صحيح البخاري عن عروة بن الزبير أن عائشة – رضي الله عنها – قالت للنبي – صلى الله عليه وسلم -: هل أتى عليك يوم أشد عليك من يوم أُحد؟ فقال: ((لقد لقيتُ من قومِكِ ما لقيتُ – وفي آخر الحديث – فإذا جبريل فناداني: يا محمد، إن الله سمِع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك مَلَك الجبال لتأمره بما شئتَ فيهم فناداني مَلَك الجبال فسلَّم عليَّ ثم قال: يا محمد؛ ذلك فيما شئتَ، فإن شئتَ أن أُطبِق عليهم الأخشبين، قال النبي – صلى الله عليه وسلم -: (بل أرجو أن يُخرِج الله من أصلابهم من يعبد الله – عز وجل – لا يشرك به شيئًا)، والأخشبان: جبلان بمكة.

ومن ذلك جوده – صلى الله عليه وسلم – في الخير وسماحة وجهه، وبشاشته في وجوه الناس، متجاهلاً الأذى والضرر الذي قد يلقاه من المشركين أو المنافقين أو غيرهم.

ومنها جوده – صلى الله عليه وسلم – في البذل والعطاء، وعدم التردد في ذلك، وهو قمة الكرم :ففي الصحيحين عن جابر قال: ما سئل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – شيئًا فقال: لا، وأنه قال لجابر: (لو جاءنا مالُ البحرين لقد أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا)، وقال بيديه جميعًا، إشارة إلى كرمه وجوده.

وفي صحيح مسلم عن صفوان بن أمية قال : ( لقد أعطاني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ما أعطاني وإنه لمن أَبغض الناس إليَّ فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي)، وفي صحيح البخاري من حديث سهل بن سعد أن شملة أُهديت للنبي – صلى الله عليه وسلم -فلبسها وهو يحتاج إليها، فسأله إياها رجل فأعطاه، فلامه الناس وقالوا: قد كان محتاجًا إليها، وقد علمت أنه لا يَرُد سائلاً فقال: إنما سألتها لتكون كفني فكانت كفنه.

وللعلماء في جوده وكرمه – صلى الله عليه وسلم- في شهر رمضان وغيره اقوال كثيرة، منها ما قاله الحافظ ابن رجب – رحمه الله:

كان جوده – صلى الله عليه وسلم -كله لله وفي ابتغاء مرضاته، فإنه كان يبذُل المال إما لفقير محتاج أو يُنفِقه في سبيل الله أو يتألَّف به على الإسلام مَن يقوى الإسلام بإسلامه، كان يؤثِر على نفسه وأهله وأولاده، فيُعطي عطاء يعجَز عنه الملوك مِثل كسرى وقيصر، ويعيش في نفسه عيش الفقراء، فيأتي عليه الشهر والشهران لا يُوقَد في بيته نار، وربما ربَط على بطنه الحجرَ من الجوع، وكان قد أتاه سبي، فشكت إليه فاطمة ما تلقى من خدمة البيت، وطلبتْ منه خادمًا تكفيها مؤونة بيتها، فأمرها أن تستعين بالتسبيح والتكبير والتحميد عند نومها، وقال: (لا أعطيك وأَدع أهل الصفة تُطوى بطونهم من الجوع).


X أرشيف مطبوعات الديوان


مجلة الرسالة الاسلامية



مجلة عيون الديوان



مجلة بنت الاسلام



مجلة الامة الوسط



مجلة والذين معه