07 / 11 / 2013

الهجرة مشروع حضارة

د.خالد عصام خليل

قال الشاعر :

لا يمنعك مضض العيش في دعةً

                          من ان تبدل أوطاناً بأوطان

تلقى بكل بلاد ان حللت بها

                         اهلا بأهل واخوانا بإخوان

       هكذا هي سنة الامم في أرض الوجود فقيام حضارات وسقوطها وتقدم الامم وتخلفها والنصر والهزيمة والقوة والضعف كل تلك من اهم المسببات من اجل خروج انسان الحضارة من رحم المحن  والازمات والفتن ، لذا فالأمة التي لا تقرأ تاريخها ولا تستفيد من حاضرها ومستقبلها لهي أمة مقطوعة النبتة ، فالماضي ليس مفتاحاً لفهم الحاضر فحسب بل هو اساس اعادة صياغة الحاضر وهذا ما نجده في قوله – تعالى – : ((ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ)) هود ( آية100) ، قال ابن الاثير (( انه لا يحدث امراً إلاّ وقد تقدم هو او نظيره فيزداد الانسان بذلك عقلاً ويصبح لان يقتدى به اهلاً)) (كتاب /سبيل النجاة :28) ، من هنا احببت ان اضع خطوة الهجرة النبوية الشريفة التي من خلالها انساحت حضارة الاسلام بسيول هادئة وكذلك سيول انفجارية الى مشارق الارض ومغاربها والتي لم يعرف العالم لها نظيراً في عوالم التغيير من شدة سرعتها وقوتها وثباتها , فالهجرة  ليست مرحلة تاريخية تمضي بمضي اهلها وزمانهم ، انما هي مسيرة لا تنقطع وستظل جزءاً من حركة حضارة مستمرة

 قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم –  : ((الهجرة لا تنقطع حتى تنقطع التوبة والتوبة لا تنقطع حتى تشرق الشمس من مغربها ))  ومن  منطلق ان الهجرة مستمرة  اجد ان فلسفة الهجرة مرت على وجه البسيطة بمرحلتين، هما

مرحلة المكاشفة ( الأمم السابقة) ، والتي كانت مرتبطة بمشروع الطرد او التعذيب او الكفر  فهذا نبي الله شعيب – عليه السلام – خُير ما بين الطرد او الكفر، قال – تعالى – : ((قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ )).الأعراف ( آية 88). وهذا خليل الله نبي الله ابراهيم  – عليه السلام –  يُعاد من أسرته ِ ، ابيه   : ((قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً )). مريم (آية 46). وهاهو موسى

– عليه السلام –  يهاجر خوفاً من بطش فرعون وملائه قال-  تعالى – : ((وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ(21) )). الدخان: 20- 21   ومن أجل ذلك  ايضاً صمم الفتية على الهجرة خوف التقتيل او الفتنة قال – تعالى -وهو يصف حالهم : ((وَإِذْ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً )).الكهف:١٦ فهذه حال كل من يريد اعلاء كلمة الله التوحيد وتحرير ذلك الانسان      قوله – تعالى –  : ((وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ))إبراهيم ( آية 13) ! هنا تتجلى حقيقة المعركة وطبيعتها بين الإسلام والجاهلية.. إن الجاهلية لا ترضى من الإسلام أن يكون له كيان مستقل عنها. ولا تطيق أن يكون له وجود خارج عن وجودها. وهي لا تسالم الإسلام حتى لو سالمها.

فالإسلام لا بد أن يبدو في صورة تجمع حركي مستقل بقيادة مستقلة وولاء مستقل، وهذا ما لا تطيقه الجاهلية.

لذلك لا يطلب الذين كفروا من رسلهم مجرد أن يكفوا عن دعوتهم ولكن يطلبون منهم أن يعودوا في ملتهم، وأن يندمجوا في تجمعهم الجاهلي، وأن يذوبوا في مجتمعهم فلا يبقى لهم كيان مستقل. وهذا ما تأباه طبيعة هذا الدين لأهله، وما يرفضه الرسل من ثم ويأبونه، فما ينبغي لمسلم أن يندمج في التجمع الجاهلي مرة أخرى.

(في ظلال القرآن: 4/ 2092)

مرحلة بناء (حضارة الاسلام) ، عزم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الهجرة الى المدينة وخطواته تخط في الارض ومعانيها تخط مستقبل أمة قال  – تعالى – : ((وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ )) النحل ( آية 41). وقال – تعالى – وهو يصف حال المهاجرين في الدنيا والآخرة   : ((فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ )).آل عمران(آية 195). هم الذين اختاروا المهاجرة من اوطانهم واهليهم واموالهم لأنهم اختاروا خدمة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وملازمته على الاختيار ، قال ابن عتيق ((ما من احد يترك الهجرة إلاّ وهو يعتذر بشيء إلاّ سًد اللهٌ – تعالى – على الناس باب الاعتذار بها أي – مكة- ومن اعتذر كان فاسقاً ، وان كانت مكة هي اشرف بقاع الارض ، فقد اوجب الله الهجرة منها ولم يجعل محبتها عذراً فكيف بغيرها )) لذا نجد ان القاضي عياض – رحمه الله –  يقول ((اتفق الجميع على ان الهجرة  كانت واجبة ، وان سكن المدينة واجب لنصرة الدين ومواساة النفس ))(فتح الباري :7/267) قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : (( من اسرع الى الهجرة اسرع به العطاء ومن ابطأ عن الهجرة ابطأ به العطاء )) فهي مرحلة فاصلة بين مقتصد وسابق بالخيرات  ، هي رحلة  بناء أمة  الاسلام وحضارتها  الثابتة الشمولية الواقعية المستقبلية الآمنة ، هكذا فهم اصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – رحلة الهجرة ، ومهما اراد الطغاة بكل مواقفهم المتشابهة في كل العصور والازمان وتغير المكان وتعدد الاقوام ان يوقفوا هذه الحضارة فلن يستطيعوا ابداً قال – تعالى – : ((وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ))الأنفال( آية 30 ). يقول سيد قطب ((تعلمت في ظلال القرآن انه لا مكان في هذا الوجود للصدفة العمياء ولا للفلتة العارضة قال-  تعالى – : ((إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ))  القمر ( آية 49 ) .   وكل أمر بحكمة ولكن حكمة الغيب عميقة قد لا تنكشف للنظرة الإنسانية القصيرة فالأسباب والمقدمات التي تعارف على حتميتها الناس قد تعقبها نتائج وقد لا تعقبها ذلك انه ليست الأسباب والمقدمات هي التي تنشئ الآثار والنتائج انما هي الارادة المطلقة)) قال –  تعالى – : ((يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً ))الطلاق ( آية 1). فاعلم ايها القارئ ان الهجرة مرحلة لن تتوقف عند تاريخنا التليد بل هي محطة ندقق التفكر فيها ؛ كي نستلهم  فكرتها بصياغة واقعنا لنجني منها (مستقبل زاهر ) .


X أرشيف مطبوعات الديوان


مجلة الرسالة الاسلامية



مجلة عيون الديوان



مجلة بنت الاسلام



مجلة الامة الوسط



مجلة والذين معه