04 / 01 / 2023

الوصايا الربّانية في سورة الحُجُرات

الدكتور أحمد ظافر

1- فتبينوا

قال تعالى: (( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبا فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)) (سورة الحجرات الآية : ٦)

سبب النزول:

عن أبي ضرار الخزاعي قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاني إلى الإسلام، فدخلت فيه وأقررت به، فدعاني إلى الزكاة، فأقررت بها.

وقلت: يا رسول الله أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة، فمن استجاب لي جمعت زكاته فيرسل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولا لإبان كذا وكذا – ضرب له موعد محدد ، ليأتيك ما جمعت من الزكاة، فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له وبلغ الإبان بلغ الموعد الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه، احتبس عليه الرسول فلم يأته، فظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله عز وجل ورسوله، فدعا بسروات قومه.

فقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وقت لي وقتا يرسل إلي رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة، وليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلف، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة كانت فانطلقوا فنأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق، فرق خاف فرجع فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم البعث إلى الحارث، فأقبل الحارث بأصحابه، إذ استقبل البعث وفصل من المدينة لقيهم الحارث، فقالوا: هذا الحارث فلما غشيهم.

قال لهم: إلى من بعثتم؟

قالوا: إليك.

قال: ولم؟

قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعث إليك الوليد بن عقبة، فزعم أنك منعته الزكاة، وأردت قتله.

قال: لا والذي بعث محمدا بالحق ما رأيته بتة، ولا أتاني.

فلما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال ((منعت الزكاة وأردت قتل رسولي))، قال: لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا أتاني وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، خشيت أن تكون كانت سخطة من الله عز وجل ورسوله.

قال: فنزلت الحجرات: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبُوا قَوْمًا بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)) ( رواه الامام احمد).

2- فأصلحوا، وأقسطوا:

قوله جل في علاه: ((وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بعت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءَت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون)) (سورة الحجرات الآية ٩).

سبب النزول: حدثنا معتمر قال سمعت أبي أن أنسا رضي الله عنه قال:

قيل للنبي صلى الله عليه وسلم لو أتيت عبد الله بن أبي فانطلق إليه النبي صلى الله عليه وسلم وركب حمارا فانطلق المسلمون يمشون معه وهي أرض سبخة فلما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال إليك عني والله لقد آذاني نتن حمارك فقال رجل من الأنصار منهم والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحا منك فغضب لعبد الله رجل من قومه فشتمه فغضب لكل واحد منهما أصحابه فكان بينهما ضرب بالجريد والأيدي والنعال فبلغنا أنها أنزلت (( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما )) (صحيح البخاري) .

وجاء في الدر المنثور: وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال : كان رجل من الأنصار يقال له عمران تحته امرأة يقال لها أم زيد ، وأنها أرادت أن تزور أهلها فحبسها زوجها وجعلها في علية له لا يدخل عليها أحد من أهلها ، وإن المرأة بعثت إلى أهلها فجاء قومها فأنزلوها لينطلقوا بها ، وكان الرجل قد خرج فاستعان أهل الرجل ، فجاء بنو عمه ليحولوا بين المرأة وبين أهلها ، فتدافعوا واجتلدوا بالنعال، فنزلت فيهم هذه الآية (( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصلح بينهم، وفاؤوا إلى أمر الله (الدر المنثور في التأويل بالمأثور، جلال الدين السيوطي).

وجاء في التفسير الميسر وإن طائفتان من أهل الإيمان اقتتلوا فأصلحوا أيها المؤمنون – بينهما بدعوتهما إلى الاحتكام إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والرضا بحكمهما، فإن اعتدت إحدى الطائفتين وأبت الإجابة إلى ذلك فقاتلوها حتى ترجع إلى حكم الله ورسوله، فإن رجعت فأصلحوا بينهما بالإنصاف، واعدلوا في حكمكم بأن لا تتجاوزوا في أحكامكم حكم الله وحكم رسوله إن الله يحب العادلين في أحكامهم القاضين بين خلقه بالقسط. وفي الآية إثبات صفة المحبة لله على الحقيقة، كما يليق بجلاله سبحانه.

3- لا يسخر ، ولا تلمزوا، ولا تنابزوا (( يَا أَيُّهَا الذين آمنوا لا يَسخَرْ قَوْم من قَوْمٍ عَسَى أن يكونوا خيرًا متهم ولا نساء من نساء عسى أن یکن خيرًا متهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابَرُوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون)) (سورة الحجرات الآية : ١١_١٢).

قال الإمام أحمد رحمه الله : ومن هذا الباب قول الله عز وجل: (( يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم، ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ، ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان، ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن )) ، إلى قوله (( لحم اخيه ميتا فكرهتموه)) ، فاشتملت هذه الآية على تحريم الاستهزاء والسخرية ، وتحريم اللمز وهو الغيبة والوقيعة، ومعنى ( لا تلمزوا أنفسكم )؛ أي لا يلمز بعضهم بعضا، وتحريم التنابز بالألقاب هو أن يدع الواحد أن يدعو صاحبه باسمه الذي سماه أبوه، ويضع له لقبا يريد أن يشينه به أو يستذله فيدعوه به، ثم قال: ( بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان) فأبان أن فعل هذه المحظورات فسوق بعد الإيمان والإيمان يوجب مواصلة أقداره الاعتراض على الموجود منه بما لا يليق به، ثم قال : (ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون) : أي هم الظالمون أنفسهم بسوقها إلى النار، والعذاب الأليم، ثم قال: ((يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم)) ، فأراد أن ظن القبيح بالمسلم كهمزه ، ولمزه والسخرية والهزء به نهى عنه ، وأخبر أنه إثم ونهى عنه وعن التجسس ، وهو تتبع أحواله في خلواته وجوف داره والتعرف لها فإن ذلك إذا بلغه ساءه وشق عليه فكان التعرض له من باب الأذى الذي لا موجب له ، ولا مرخص فيه. وبسط الكلام فيه، قال: ثم نهى عن الغيبة فقال: (( ولا يغتب بعضكم بعضا )) : أي لا يذكره وهو غائب عنه بما لو كان حاضرا فسمعه يشق عليه وشبه الاغتياب بأكل لحم الميت لأن الميت لا يشعر بأن يؤكل لحمه كما لا يشعر الغائب بأن يسلب عرضه ، ولا ينبغي لمسلم أن يغتب مسلما, ولا أن يغلظ له قولا ولا أن يتعرض لمساءته، ولا أن يبهته وروي فيه أحاديث ونحن نأتي إن شاء الله على ما حضرنا من ذلك وزيادة لائقة به بتوفيق الله عز وجل.

4- اجتنبوا كثيرا من الظن، ولا تجسسوا لا يغتب،

(( يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرًا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم ببَعْضًا أَيحُبُّ أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله ان الله تواب رحيم)) (سورة الحجرات الآية: (۱۲-۹).

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تناجشوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا، ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا) (صحيح البخاري)، باب: ((يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا)).

قال سفيان الظن ظنان: فظن إثم، وظن ليس بإثم، فأما الظن الذي هو إثم، فالذي يظن ظنا

ويتكلم به، وأما الظن الذي ليس بإثم، فالذي يظن ولا يتكلم به (الجامع الصحيح للسنن والمسانيد).

ومن أساء الظن بمن ليس محلا لسوء الظن به، دل على عدم استقامته في نفسه، كما قيل: إذا

ساء فعل المرء ساءت ظنونه، وصدق ما يعتاده من توهم والظن أكذب الحديث، أما من هو محل لسوء الظن به فيعامل بمقتضى حاله كما يدل له الخبر: الحزم سوء الظن وخبر من حسن

ظنه بالناس، طالت ندامته (فيض القدير).


X أرشيف مطبوعات الديوان


مجلة الرسالة الاسلامية



مجلة عيون الديوان



مجلة بنت الاسلام



مجلة الامة الوسط



مجلة والذين معه