30 / 12 / 2014

حرمةُ شهرِ محرمٍ وثوابُ أعماله

د. أسامه توفيق القباني

تعد الأشهر الحرم ومن اخصها شهر محرم من الأشهر التي كان العرب قبل الدعوة الاسلامية وبعدها يكنون له تقديساًخاصا وذلك لكثرة الاحداث الجلل التي حدثت فيه ، وكثرة الأوهام التي كانوا يعتقدونها قبل دعوة الاسلام التي كان يصادف حدوثها فيه.

إنّ مما خصَّ الله سبحانه بمزيد فضل من بين الشهور؛ الأشهر الحُرُم، التي ذكرها الله تعالى في كتابه: (( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)) ( سورة التوبة:36)

من حرمة هذه الأشهر أن الأعمال فيها مضاعفة الجزاء، إن خيراً فخير، وإن شرّاً فشر، لذلك أكّد النهيَ عن الظلم فيها؛ فقال: ((فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)) ، والظلم هنا يشمل المعاصي كلها؛ كبيرها وصغيرها، بترك الواجبات وفعل المحرمات، مما يتعلق بحقوق الخالق والمخلوق، وكلها ظلمٌ للنفس، لأنها هي التي تُعاقب بجريرة ما كسبت، ولا يضر اللهَ شيئاً، كما قال تعالى: (( إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)) (سورة يونس:44) ، وقال: (( وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)) (سورة البقرة:57)

والظلم والمعاصي محرمة في سائر الشهور والأيام، ولكن خصَّ هذه الأربعة بزيادة التحريم وتأكيده، وتشديدًا للنهي عما وقعت فيه الكفار من انتهاك حرمتها، لأجل ذلك كانت مضاعفة الجزاء. قال ابن عباس – رضي الله عنهما – : (( يريد : تحفَّظوا على أنفسكم فيها واجتنبوا الخطايا، فإن الحسنات فيها تضاعف والسيئات فيها تضاعف)) (الواحدي؛ الوسيط في تفسير القرآن المجيد) ، وقال قتادة – رحمه الله- : (( إن العمل الصالح والأجر أعظم في الأشهر الحرم، والذنب والظلم فيهن أعظم من الظلم فيما سواهنّ، وإن كان الظلم على كل حال عظيم، ولكن الله يعظم من أمره ما شاء كما يصطفي من خلقه صفايا)) (ابن كثير؛ تفسير القرآن العظيم:1/ 148) . ونظير هذه المضاعفة كثير، كما قال تعالى: (( يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا)) (سورة الأحزاب:30)، لأنهن في حُرمة اكتسبنها من بيت النبوة والعلم، فوجودهن فيها مظنة علمهن بحدود الله تعالى، ومظنة الخشوع والحضور والاحتراس. ومن ذلك حرمة المسجد الحرام، فمجرد إرادة الظلم فيه يعاقب عليها: ((وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)) (سورة الحج:25)

مع التنبيه على أن هذه المضاعفة عامة في كل بقاع الأرض، وليست فقط للمُحرمين بالحج أو العمرة، أو ممن كانوا في محيط الحرم، فإن للحرم ذاته حرمة أيضاً، فإذا وافق المسلم اجتماعٌ حُرمتَي الزمان والمكان فقد عظُم أجرُ طاعته وإثمُ مظلمته؛ أضعافاً مضاعفة .

فليحذر المسلم مِن أن يجد نفسه قد حمل من الآثام في أشهر قلائل، ما قد يحمله عتاة العصاة في سنوات! لأجل هذه المضاعفة، كما ينبغي له أن يغتنم هذه الفرصة العظيمة والمنة الكريمة؛ فيجتهد فيها في الطاعة، ويكثر فيها من عظائم الأمور، وليتخيَّر منها أعظمها أجراً وليملأ بها وقته ويُفرغ فيه جهدَه، فلعله يفوز بأجور السنين أو القرون في قليل من الأشهر. وكل طاعة تضاعَف، وكل مظلمة تُضاعف، ولم يرد دليل صحيح بخصوص عمل معيَّن في هذه الأشهر الأربعة، فيبقى على العموم، وأما أفضلية الصوم فيها، فلم يرد فيها إلا حديث: (( صم من الحرم واترك، صم من الحرم واترك)) … وهو حديث ضعيف، كما في (ضعيف أبي داوود للألباني، برقم:419). بينما جاء فضل بعض الأعمال في بعض الأيام منها، كعشر ذي الحجة، بما فيها عرفة: ((ما العمل في أيام أفضل منها في هذه؟)) قالوا: ولا الجهاد؟ قال: ((ولا الجهاد، إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله، فلم يرجع بشيء)) رواه البخاري في صحيحه.

إن الله تعالى جعل لهذه الأشهر حرمة لحِكَمٍ جمَّة، وجعل لتحريمها صُوَراً عديدة .

ففي الآية الكريمة ، بعد أن بيَّن الله تعالى أن عِدة الشهور عنده في كِتابِ اللَّهِ يعني اللوح المحفوظ وقيل في قضائه الذي قضى يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ، هي هكذا بخلقه وتشريعه، وأن منها أربعة حرُم؛ قال تعالى: ((ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)) ، فهذا هو الحساب القائم المستقيم، وهو الدين القيم، أي أن الدين القيم هو الذي وضعه الله تعالى لعباده فيما خلق لهم من الخلق، أو فيما شرع لهم من الأمر، لأنه سبحانه صاحب الخلق والأمر والاختيار: ((تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)) (سورة الأعراف:54) ، (( وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ)) (سورة القصص:68)، فإذا اختار شيئًا من الخلق أو الأمر الشرعي؛ فليس للمؤمنين إلا الرضا باختياره، وإلا فليسوا بمؤمنين: ((وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا)) (سورة الأحزاب:36) . فإن اختاروا غير ما اختار الله لهم، وحرَّفوا الكلم عن مواضعه، وقدَّموا وأخَّروا فقد وقعوا فيما وقع فيه الذين كفروا، والذي قال فيهم: ((إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ))(سورة براءة :37) . ويُصبحون في دين ليس بقيم، لأن دين الله تعالى هو القيم، وغيره معوجٌّ منحرف ضال.


X أرشيف مطبوعات الديوان


مجلة الرسالة الاسلامية



مجلة عيون الديوان



مجلة بنت الاسلام



مجلة الامة الوسط



مجلة والذين معه