21 / 12 / 2022

رحلة مع أهل التفسير .. الطبري مفسراً

د. مصطفى عبد الستار مول

رحلة مع أهل التفسير نلقي الضوء على أهم رجالاتهم وأبحاثهم القرآنية ، التي يمكن منها تغير الطريقة التي ينظر بها إلى القرآن الكريم ، متناولا بذلك أبرز الرجال الذين خدموا كتاب الله تعالى بيانا وإيضاحا علما وعملا .

التعريف بالطبري:

الإمام الطبري هو : محمد بن جرير بن يزيد كثير الأملي الطبري الإمام العالم العلامة، أوحد الدهر، وفريد كل عصر، مؤلف ( التاريخ ) و ( التفسير) المشهورين الكبيرين المذكورين، فضلا عن تصانيفه العزيزة الوجود الغريبة بين أمثالها في الجودة والموجود ، ومن جميل شعره :

خلقان لا أرضى طريقهما …                      بطر الغنى ومذلة الفقر

فإذا غنيت فلا تكن بطرا …                      وإذا افتقرت فيه على الدهر

ولد الإمام الطبري بأمل طبرستان سنة أربع وعشرين ومائتين للهجرة (٢٢٤هـ) و توفي سنة عشر وثلاثمائة للهجرة ( ٣١٠هـ ) ينظر : ( طبقات الشافعية : ١ / ١٠٠ – ١٠١) ، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان حافظا لكتاب الله، عارفا بالقراءات بصيرا بالمعاني فقيها في أحكام القرآن عالما بالسنن وطرقها صحيحها وسقيمها وناسخها ومنسوخها، عارفا بأقوال الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من الخالفين في الأحكام ومسائل الحلال والحرام، عارفا بأيام الناس وأخبارهم وله الكتاب المشهور في تاريخ الأمم والملوك )، وكتاب في ) التفسير ( لم يصنف أحد مثله، وكتاب سماه ( تهذيب الآثار ) ، وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة، واختيار من أقاويل الفقهاء. روى عن أربعة وسبعين وأربعمائة شيخ في نحو تسعة وأربعين ألف أثر وخبر وكان على رأس شيوخه الإمام محمد بن إسماعيل البخاري.

قال مسلمة بن قاسم: كان حصورا لا يعرف النساء، ورحل من بلده في طلب العلم وهو ابن اثنتي عشرة سنة؛ سنة ست وثلاثين، فلم يزل طالبا للعلم مولعا به، إلى أن مات.

قال ابن خزيمة: ما أعلم على أديم الأرض أعلم من ابن جرير ، وقال أبو محمد الفرغاني: كان ابن جرير ممن لا تأخذه في الله لومة لائم، مع عظيم ما يلحقه من الأذى والشناعات من جاهل وحاسد وملحد، فأما أهل العلم والدين فغير منكرين علمه، وزهده في الدنيا، ورفضه لها وقناعته باليسير، وعرض عليه القضاء فأبى. وحين مات ابن جرير عشية يوم الأحد ليومين بقيا من شوال سنة عشر وثلاثمائة ، اجتمع في جنازته خلق لا يحصون وصلي على قبره عدة شهور، ورثاه خلق ، فمن ذلك قول أبي سعيد بن الأعرابي:

حدث مفظع وخطب جليل …                      دق عن مثله اصطبار الصبور

قام ناعي العلوم أجمع لما …                       قام ناعي محمد بن جرير.

وقد رثاه ابن دريد بقصيدة بديعة طويلة، يقول فيها:

إن المنية لم تتلف بهِ رَجَلا …                     بل أتلفت علما للدين متصوبا

كان الرمان به تصفو مشاربه  …                والآن أصبح بالتكدير مقطوبا

كلا وأيامه الغر التي جعلت  …                   للعلم نورا وللتقوى محاريبا

التعريف بالتفسير ( جامع البيان في تأويل آي القرآن )

يعد تفسير الطبري أوسع التفاسير وأشهرها، وقد تدارسه العلماء قديما و حديثا، قال أحمد شاكر في مقدمته للتفسير : فإن هذا التفسير الجليل باكورة عمل عظيم، تقوم به دار المعارف بمصر ، لإحياء تراث الإسلام ، وإخراج نفائس الكنوز التي بقيت لنا من آثار سلفنا الصالح، وعلمائنا الأفذاذ ، الذين خدموا دينهم، وعنوا بكتاب ربهم، وستة نبيهم، وحفظ لغتهم، بما لم تصنعه أمة من الأمم، ولم يبلغ غيرهم معشار ما وفقهم الله إليه. فكان أول ما اخترنا باكورة لهذا المشروع الخطير: كتاب (تفسير الطبري)، وما بي من حاجة لبيان قيمته العلمية، وما فيه من مزايا يندر أن توجد في تفسير غيره ، وهو أعظم تفسير رأيناه وأعلاه وأثبته ، استحق به مؤلفه الحجة أن يسمى (إمام المفسرين) .

أملى ابن جرير كتابه جامع البيان في تأويل أي القرآن على تلاميذه من سنة (۲۸۳) إلى سنة  (٢٩٠) ، ثم قرئ عليه سنة ( ٣٠٦ ) ، وقد أطبق العلماء على الثناء على كتابه . وقد طبع جامع البيان في تأويل آي القرآن، الطبعة الأولى منه في المطبعة الأميرية في بولاق بمصر وبهامشها تفسير النيسابوري سنة (١٢٣٥هـ / ١٨١٩م) وطبعته الثانية بمطبعة دار المعارف بمصر سنة ( ١٣٧٤هـ / ١٩٥٤م ) بتحقيق وتعليق الأستاذ محمود محمد شاكر ومراجعة الأستاذ أحمد محمد شاكر، كتب لهذا التفسير الذيوع و الشهرة بين أهل العلم، فقد كان عمدة أصحاب التفاسير بالمأثور.

وقد قدم الطبري لتفسيره بمقدمة علمية حشد فيها جملة من مسائل علوم القرآن ، منها : اللغة التي نزل بها القرآن والأحرف السبعة ، والمعرب ، وطرق التفسير ، وقد عنون لها بقوله : ((القول في الوجوه التي من قبلها يوصل إلى معرفة تأويل القرآن )) ، وتأويل القرآن بالرأي ، وذكر من ترضى روايتهم ومن لا ترضى في التفسير . ثم ذكر القول في تأويل أسماء القرآن وسوره وآيه ، ثم القول في تأويل أسماء فاتحة الكتاب ، ثم القول في الاستعاذة ، ثم القول في البسملة ، ثم ابتدأ التفسير بسورة الفاتحة ، حتى ختم تفسيره بسورة الناس. ويعد تفسير الطبري من الموسوعات التي جمعت التطور المعرفي والمنهجي الذي حصل في تاريخ الثقافة العربية والإسلامية بصفة عامة، والتفسير بصفة أخص لما استبطنه متنه من ملامح العصر بجوانبه الفكرية والاجتماعية والسياسية جمع فيه الطبري المرويات عن الرسول صلى الله عليه و سلم و عن صحابته رضي الله تعالى عنهم و عن تابعيهم، كما خاض في مسائل فكرية وتاريخية و اجتهادية فقهية وعقدية الكلامية.

منهج ابن جرير في تفسيره:

تنحصر جملة مناهجه التي سلكها في كتابه (جامع البيان) في نقاط عدة:

أولها: التزامه التام بالنقل المأثور عن الأجيال الثلاثة الأولى مع ذكر سلسلة الرواية كاملة حتى تنتهى إلى قائلها الأصلي مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو موقوفة على الصحابة، أو مقطوعة على التابعي ، والطبري ينقل سلسلة الرواية بطريقه هو ، فضلا إنه لم يحكم على الرواية من حيث القوة والضعف، إلا أنه يكون قد خرج من العهدة العلمية ، علما بأن الطبري التزم بعدم النقل عن المشهورين بالتلفيق والكذب كمقاتل بن سليمان، ومحمد بن السائب الكلبي .

ثانيها: يبدأ الآية التي يريد أن يفسرها بذكر معناها العام إجمالا بما يتفق له مع مأثور الرواية عنده فيقول: القول في تأويل قول الله تعالى: (( فإذا أمتتم فمن تمتع بالعمرة إلى الخج )) (سورة البقرة الآية : (١٩٦). يقول: فإذا أمنت حين تحصر إذا أمنت من كسرك من وجعك فعليك أن تأتى البيت فيكون لك متعة فلا تحل حتى تأتى البيت وقال آخرون معنى ذلك فإذا أمنتم من وجع خوفكم . ثم يعدد الروايات في ذكر من قال بهذا المعنى إن كان فيها أكثر من طريق أو أكثر من قائل.

ثالثها: لا يقف مكتوفا على مجرد الرواية، وإنما :

  1. يتعرض لنقدها إذا تبين له أن الرواية مخالفة لظاهر النص القرآني. فنراه يتعرض لمجاهد بن جبر عند ما قال في قوله تعالى : (( فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين)) (سورة البقرة الآية : ٦٥ ) . :قال مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة، وإنما هو مثل ضربه الله لهم كمثل الحمار يحمل أسفارا ، يرد ابن جرير قول مجاهد هذا فيقول: ((وهذا القول الذي قاله مجاهد قول لظاهر ما دل عليه كتاب الله (مخالف، والطبري هنا يميل إلى الأخذ بالمذهب الظاهر من لفظ القرآن فحين أن الحق قد يكون مع مجاهد، فلا سبيل إلى القطع إذا بأن مراد الله تعالى في هذا هو المسخ الحقيقي أو المسخ المجازي.
  2. أو يرجح بين قولين فيختار أحدهما دون الآخر كما في قوله تعالى: (( تبت إليك وأنا أول المؤمنين )) (سورة الأعراف الآية : ١٤٣). فيها قولان، ولكل قول منها روايات:

الأول: أنا أول المؤمنين بك من قومي أن لا يراك في الدنيا أحد إلا هلك ، فيأتي الطبري بأسانيده على ذكر من قال ذلك وهم: أبو العالية والربيع و مجاهد وابن عباس.

الثاني: أنا أول المؤمنين بك من بنى إسرائيل.

فيذكر أن ذلك قول عكرمة، ومجاهد في رواية أخرى عن ابن عباس. ثم يختار الطبري القول الثاني ويعلل هذا الاختيار بقوله: لأنه كان قبله في بنى إسرائيل مؤمنون وأنبياء منهم من ولد إسرائيل لصلبه، وكانوا مؤمنين وأنبياء فلذلك اخترنا القول الذي قلناه قبل.

رابعها: يحتكم الإمام الطبري إلى اللغة والمعروف من كلام العرب حينما يجد أن الآراء تتعارض مع المفهوم اللغوي، وهذا له من النماذج في تفسير الطبري الشيء الكثير.

ويدخل في هذا المنهج احتكام الطبري إلى الشعر القديم، وهذا أيضا شواهده كثيرة يلمسها الطالب حينما يضع الكتاب عمليا بين يديه، ويقلب في صفحاته جزءا جزءا.

خامسها: يعنى عناية فائقة بذكر القراءات ويثبت منها ما صحت روايته ويرد القراءات الواردة من غير أئمتها المشهود لهم بصحة الرواية . وابن جرير الطبري في هذا يصدر عن قدم راسخ في علم القراءات، إذ ألف في هذا العلم كتابا ضخما في ثمانية عشر مجلدا كما يذكر ذلك ياقوت الحموي في ترجمة ابن جرير .

سادسها: يكثر الطبري من إيراد مسائل النحويين والصرفيين حسب مدارسهم المختلفة، ويبين وجوه الإعراب إذا كان لها في الآية أكثر من وجه.

سابعها: يتعرض كثيرا لذكر المرويات المنقولة عن مسلمة أهل الكتاب من اليهود والنصارى أو ما يعرف باسم (الإسرائيليات) ، وابن جرير فصل ذلك متأثرا بمواقف المفسرين المعاصرين له في النقل عن الروايات الإسرائيلية وربما كان لاشتغاله بالتواريخ القديمة أثرها عليه في ذلك النقل أيضا ، وتفسير الطبري في هذه الناحية من منهجه يحتاج إلى دقة القارئ في تمحيص الرواية والوقوف على صحتها.

ثامنها: وقوفه كثيرا عند الآيات التي تتناول الحلال والحرام، وتعنى بالمسائل الفقهية، فيذكر عندها آراء الفقهاء ، وتظهر في العرض لهذه المسائل ملكة الاجتهاد عنده فيختار الرأي الراجح، أو يخلص هو إلى رأي بنفسه، ويسوق الأدلة العلمية عليه ، هذا إلى جانب تعرضه لمسائل تخص علم الكلام والجدل، كما أنه يقف في وجه من يتصدى لتفسير الآيات بالرأي المجرد ، ويصفه بالخلو عن العلم هذا وقد عكف الطبري على تفسير كتابه (جامع البيان) زهاء سبع سنوات يمليه على أصحابه إملاء.

العلماء و تفسير الطبري :

أثنى العلماء على تفسير الطبري، واهتموا به درسا ومطالعة ، ومن أبرز المقولات التي تبين عظيم مصنف الإمام الطبري، ما جاء عن أبي حامد أحمد بن أبي طاهر الفقيه الإسفرائيني أنه قال: لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل له كتاب تفسير محمد بن جرير لم يكن ذلك كثيرا أو كلاما هذا معناه وقال أبو بكر بن بالويه سمعت إمام الأئمة ابن خزيمة يقول: ما أعلم على أديم الأرض أعلم من محمد بن جرير. ولقد ظلمته الحنابلة. قال الإمام النووي: كتاب ابن جرير في التفسير لم يصنف أحد مثله . ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وأما التفاسير التي في أيدي الناس فأصحها تفسير محمد بن جرير الطبري .


X أرشيف مطبوعات الديوان


مجلة الرسالة الاسلامية



مجلة عيون الديوان



مجلة بنت الاسلام



مجلة الامة الوسط



مجلة والذين معه