07 / 11 / 2013

من أبطال الهجرة

اعداد: سكرتير التحرير

من المعلوم أنَّ أيَّ بيت يُبنى لا بُدَّ له من أساس يُحفر؛ ليدلَّ على عمق قوة هذا الأساس؛ حتى يرتفع البنيان، ويعلو غير آبِهٍ بالتغيُّرات المناخية، التي تطرأ عليه، وما ذاك إلاَّ لقوة أساسه ومتانة بنائه، وقد تصاحب عملية التأسيس والبناء آلاتٌ للحفر، وأخرى لخلط المواد الإنشائية، فهي تُسهِم في إتمام عمليةِ البناء والتأسيس، و هي عوامل مساعدة في هذه المرحلة.

وكذا كانت الهجرة النبوية أساسًا لبناء الدولة الإسلامية، هذه الهجرة التي قادها وأسَّس بناءَها رسولُ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – بِوَحْيٍ من الله – تعالى-.

ومن أهمِّ عوامل إنجاح الهجرة بعد معونة الله – عزَّ وجلَّ – الاختيار الصحيح للأفراد، الذين سيقومون بحماية مشروع الهجرة.

فمن الأفراد مَن كان أساسًا للبناء، وجزءًا لا يتجزأ منه كأبي بكر، وعلي – رضي الله عنهما – ومنهم مَن كان وجودُه كوجودِ آلات البناء التي لا تدخل في أساسه، كعبدالله بن أريقط دليل الصحراء، وكان رجلاً مُشركًا، فأصحابُ رسولِ الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – كانوا هم حَجَر الأساس لخريطة الهجرة، ومهمة العبور من مكة إلى المدينة؛ يقول ابن مسعود: (( إن الله – عز وجل – نظر في قلوب العباد، فوجد قلبَ مُحمد – صلَّى الله عليه وسلَّم – خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، وابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلبه، فوجد قلوب أصحابه خيرَ قلوب العباد بعد قلبه، فجعلهم وُزَراءَ نبيِّه – صلى الله عليه وسلم – يقاتلون على دينه، فما رآه المسلمون حسنًا، فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئًا، فهو عند الله سيِّئ)).

فتطلب الأمر من النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – أنْ يُعطي لكل فرد من أفراد الهجرة دورَه المناسب على أسسٍ رصينة من الكفاءة والأمانة والقوة والشجاعة والإقدام.

فأولهم الصديق – رضي الله عنه – رفيق النبي وصاحبه في الهجرة، اختاره النبيُّ لصُحبته من بين كلِّ الصحابة؛ قالتْ أمُّنا عائشة – رضي الله عنها -: (( كان لا يُخطئ رسولُ الله أنْ يأتِيَ بيتَ أبي بكر أحد طرفي النهار، إمَّا بكرة وإمَّا عشية، حتى إذا كان اليوم الذي أُذِن فيه لرسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – بالهجرة والخروج من مكة بين ظهراني قَومِه، أتانا رسول الله بالهاجرة  في ساعة كان لاياتي فيها، قالت: فلما رآه أبو بكر، قال: ما جاء رسول الله – صلى الله عليه وسلم- هذه الساعة إلا لأمر حدث. قالت: فلَمَّا دخل تأخر أبو بكر عن سريره، فقال رسول الله له: ((أخرِجْ عني مَنْ عندك))، فقال: يا رسول الله، وما ذاك؟ فقال: ((إنَّه قد أَذِنَ لي بالخروج والهجرة))، قالت: فقال أبو بكر: الصُّحبة يا رسول الله؟ قال: ((الصحبة))، قالت: فوالله ما شعرت قطُّ قبل ذلك اليوم أحدًا يبكي من الفرح، حتى رأيتُ أبا بكر يبكي يومئذ)).

فاختار أبا بكر؛ لأنَّه أقربُ شخصٍ للنبي وأحبه له، يَحمل قلبًا رحيمًا وطاعةً للنبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – في منشطه ومكرهه.

وأمَّا علي – رضي الله عنه – فقد اختاره النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – ليبيتَ مكانَه في فراشه، وكان – رضي الله عنه – صاحب قوة وصلابة وجأش، لا يُخيفُه مكرُهم، ولا يزعزعه تجمعهم، وكان مُستعِدًّا للتضحية، لا يستطيع أحدٌ إيذاءَه؛ لأن أباه هو أبو طالب سيدهم وكبيرهم، فلو لم يصلح لهذه المهمة، لاختار بدلاً عنه آخرَ، لكن لكلِّ مُهِمَّة رجالٌ، ولكل مقام مقال.

وكان الرجل الثالثُ هو عبدالله بن أبي بكر يبيت عندهما، فيدلج من عندهما بسحر، فيصبح في قريش كأنَّه بائت، وقد اختير لهذه المهمة، وسببُ اختياره أنَّه ذو أمانة وثِقَة، وهو شابٌّ مستطيع، لَقِنٌ، فاهمٌ لما سمعه ثَقِفٌ؛ أي: ذو فطنة وذكاء.

أمَّا الرجل الرابع، فهو عامر بن فهيرة وهو مولى أبي بكر، وكان يرعى عليها، فيبيتان في رِسْل حتى ينعقَ – أي: يصيح – بها في غَلَس – ظلمة آخر الليل – فعل ذلك في كلِّ ليلة من الليالي الثلاث وهم في الطريق.

أمَّا الرجل الآخر فهو عبدالله بن أريقط وهو رجل مشرك من بني الدِّيل، لكنَّ النبيَّ انتفع منه واستأجره؛ ليدُلَّه على الطريق، لماذا؟ لأنَّه كان خبيرًا بطرق الصَّحراء، لم يستأجره؛ لأنه مشرك، أو لسبب آخر إنَّما أستأجره؛ لأنَّ مصلحةَ الدَّعوة مُتحققة في هذا، وللمفسدة المنتفية في دفع الأذى عن المؤمنين والمهاجرين، فضلاً عن الاحترام الواضح من النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – لأهل الاختصاص، وفعلاً سلك بهما طريقًا غير معهودة؛ ليُخفي أمرَهما عمَّن يلحق بهما من كفار قريش.

وأمَّا أسماءُ فلا بد أن نعرف أنَّ للنساء دَوْرًا عظيمًا في نصرة الدعوة وإمامها – عليه الصلاة والسلام – فكانت حاملة التموين من مكة إلى الغار، وسط جنونِ المشركين بَحثًا عن محمد – صلَّى الله عليه وسلَّم – ليقتلوه.

ويلاحظ أنَّ هذه الشخصيات تترابط كلها برباط العمل الواحد، تَجمعهم صفة الأمانة المتحققة في كلِّ واحد منهم؛ لتحقيق الهدف المنشود، وهو وصول إمام الدعوة محمد رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – إلى المدينة بسلام، فهي اختيارات مَرحلية للدَّعوة، وكأنَّ اختيارات الهجرة أسست عليها اختيارات الصَّحابة فيما بعد، فاختير الصديق الخليفة الأول بعد وفاة الرسول؛ إذ كان الرجل الثاني في الهجرة، فأصبح الرجل الأول بعد وفاة رسول الهجرة – عليه الصلاة والسلام.

ثم لمسنا وضع كل فرد من أفراد هذه الهجرة في عمله المناسب؛ ليكونَ أقدرَ على أدائه والنهوض بتَبِعَاته، فهذا تدبير للأمور على نَحوٍ رائع بأسلوبٍ حكيم، وضع كل شخص في مكانه المناسب، وتغطية بديعة لكلِّ مراحل الحاجة في رحلة الهجرة، واقتصار على العدد اللاَّزم دونَ زيادة أو نقصان، دون مراعاة للقرابة والنَّسَب والمصالح الشخصية، فهذه هي أبرز أسس اختيار الأفراد في حمل الرِّسالة.

من أبطال الهجرة.. أبو بكر الصديق

أبو بكر الصديق .. رفيق النبي في الهجرةهو عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي القرشي التميمي، كنيته: أبو بكر، ولقبه الصِّدِّيق، وكنية أبيه أبو قحافة.

كان أبو بكر رضي الله عنه يسمَّى أيضًا: عتيقًا، وقيل إن سبب هذه التسمية أن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال له: (( أنت عتيق من النار)). وقيل: إنه سُمِّي كذلك لحسن وجهه وجماله، ولقب بالصديق لتصديقه بكل ما جاء به النبي – صلى الله عليه وسلم-، وخصوصاً تصديقه لحديث الإسراء وقد أنكرته قريش كلها. وأبو بكر الصديق أفضل الأمة مكانة ومنزلة بعد رسول الله – صلى الله عليه وسلم-، فهو أول من أسلم من الرجال، وهو رفيق الرسول  في هجرته، وخليفته على المسلمين.

هجرة أبي بكر الصديق:

لما أذن الله – عز وجل- لنبيه بالهجرة إلى المدينة, أمر النبي – صلى الله عليه وسلم- أصحابه أن يهاجروا، وجعل أبو بكر يستأذنه في الهجرة والنبي – صلى الله عليه وسلم- يمهله ويقول له: ((لا تعجل، لعل الله يجعل لك صاحبًا)).حتى نزل جبريل – عليه السلام – على النبي – صلى الله عليه وسلم- وأخبره أن قريشًا قد خططت لقتله، وأمره ألا يبيت ليلته بمكة وأن يخرج منها مهاجرًا، فخرج النبي – صلى الله عليه وسلم- وفتيان قريش وفرسانها محيطون ببيته ينتظرون خروجه ليقتلوه، ولكن الله أخذ أبصارهم فلم يروه، وتناول النبي حفنة من التراب فنثرها على رؤوسهم وهم لا يشعرون، وذهب إلى بيت أبي بكر وكان نائمًا فأيقظه، وأخبره أن الله قد أذن له في الهجرة. تقول عائشة: ((لقد رأيت أبا بكر عندها يبكي من الفرح))، ثم خرجا فاختفيا في غار ثور، واجتهد المشركون في طلبهما حتى شارفوا الغار، وقال أبو بكر: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا، فقال له النبي – صلى الله عليه وسلم-: ((ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!.))

وأقاما في الغار ثلاثة أيام ثم انطلقا، وكان أبو بكر أعرف بالطريق، وكان الناس يلقونهما فيسألون أبا بكر عن رفيقه فيقول: ((إنه رجل يهديني الطريق)) ،وبينما هما في طريقهما إذ أدركهما سراقة بن مالك، وكان قد طمع في النياق المائة التي رصدتها قريش لمن يأتيها بمحمد، ولما اقترب سراقة رآه أبو بكر فقال: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا، ودنا سراقة حتى ما كان بينه وبينهما إلا مقدار رمح أو رمحين فكرر أبو بكر مقولته على النبي صلى الله عليه وسلم وبكى، فقال له النبي – صلى الله عليه وسلم- : ((لِمَ تبكي؟))  فقال أبو بكر: ((يا رسول الله، والله ما على نفسي أبكي ولكني أبكي عليك)).

فدعا النبي – صلى الله عليه وسلم – وقال: (( اللهم اكفناه بما شئت)). فساخت قوائم الفرس ووقع سراقة وقال: ((يا محمد، إن هذا عملك، فادع الله أن ينجيني مما أنا فيه، فوالله لأعمّينَّ على مَن ورائي)). فأجابه النبي – صلى الله عليه وسلم- إلى طلبه، ودعاه إلى الإسلام ووعده إن أسلم بسواري كسرى.

واستمرا في طريقهما حتى بلغا المدينة، واستقبل الصحابة مهاجرين وأنصار رسول الله وصاحبه بسرورٍ وفرحٍ عظيمين، وانطلق الغلمان والجواري ينشدون الأنشودة الشهيرة: طلع البدر علينا من ثنيات الوداع…

من أقوال أبي بكر الصديق:

– كان أبو بكر إذا مدحه أحد قال: (( اللهم أنت أعلم بي من نفسي وأنا أعلم بنفسي منهم، اللهم اجعلني خيرًا مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون، ولا تؤاخذني بما يقولون)) .

– لما بايعه الناس خليفة للرسول – صلى الله عليه وسلم- خطب فيهم فقال: (( أما بعد، أيها الناس فإني قد ولِّيت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني، وإن أخطأت فقوموني، ولا تأخذكم في الله لومة لائم، ألا إن الضعيف فيكم هو القوي عندنا حتى نأخذ له حقه، والقوي فيكم ضعيف عندنا حتى نأخذ الحق منه طائعًا أو كارهًا، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم)) .

– عندما امتنع بعض المسلمين عن أداء الزكاة قرّر أبو بكر قتالهم فذهب عمر إليه وقال له: (( كيف تقاتلهم وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم- : (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، فإن قالوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله)) . فقال أبو بكر: (( والله لأقاتلَنَّ من فرّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة من حق الله، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله  لقاتلتهم على منعه)). قال عمر: (( فلما رأيت أن الله شرح صدر أبي بكر للقتال، عرفت أن الحق معه)).

من مواعظ أبي بكر الصديق:

– (( إن العبد إذا دخله العجب بشيء من زينة الدنيا، مقته الله تعالى حتى يفارق تلك الزينة)).

– (( وكان يأخذ بطرف لسانه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد)).

– (( اعلموا -عباد الله- أن الله قد ارتهن بحقه أنفسكم، وأخذ على ذلك مواثيقكم، واشترى منكم القليل الفاني بالكثير الباقي، وهذا كتاب الله فيكم لا تفنى عجائبه فصدقوا قوله، وانصحوا كتابته، واستضيئوا منه ليوم الظلمة)).

– قبل موته دعا عمر بن الخطاب وقال له: (( إني مستخلفك على أصحاب رسول الله، يا عمر: إن لله حقـًّا في الليل لا يقبله في النهار، وحقًّا في النهار لا يقبله في الليل، وإنها لا تقبل نافلة حتى تُؤدى الفريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه باتباعهم الحق وثقله عليه، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق غدًا أن يكون ثقيلاً، وإنما خفت موازين من خفت موازينهم يوم القيامة باتباعهم الباطل، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يكون خفيفـًا.

يا عمر، إنما نزلت آية الرخاء مع آية الشدة وآية الشدة مع آية الرخاء ليكون المؤمن راغبًا راهبًا، فلا ترغب رغبة فتتمنى على الله ما ليس لك، ولا ترهب رهبة تلقي فيها ما بيديك.

يا عمر، إنما ذكر الله أهل النار بأسوأ أعمالهم ورد عليهم ما كان من حسن، فإذا ذكرتهم قلت: إني لأرجو ألا أكون من هؤلاء، وإنما ذكر الله أهل الجنة بأحسن أعمالهم؛ لأنه تجاوز لهم ما كان من سيئ، فإذا ذكرتهم قلت: أي عمل من أعمالهم أعمل؟ فإن حفظت وصيتي فلا يكن غائب أحب إليك من الموت وهو نازل بك، وإن ضيعت وصيتي فلا يكن غائب أكره إليك من الموت ولست تعجزه)).

وفاة أبي بكر الصديق:

توفِّي أبو بكر – رضي الله عنه- في شهر جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة قيل: يوم الجمعة لسبع بقين من جمادى، وقيل: مساء ليلة الثلاثاء لثمانٍ بقين من جمادى الآخرة. وصلّى عليه عمر بن الخطاب، وكان أبو بكر قد ولد بعد النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين وأشهر، ومات بعده بسنتين وأشهر مستوفيًا ثلاثة وستين عامًا وهو نفس العمر الذي مات عنه النبي صلى الله عليه وسلم، واستمرت خلافة أبي بكر سنتين وثلاثة أشهر وأيامًا.

وقال عمر في حقه: (( رحمة الله على أبي بكر! لقد أتعب من بعده تعبًا شديدًا)) .

رثاه علي بن أبى طالب وهو يبكي بكاء عظيمًا يوم موته بكلام طويل منه: (( رحمك الله يا أبا بكر، كنت إلف رسول الله  وأنيسه ومكان راحته، وموضع سره ومشاورته، وكنت أول القوم إسلامًا، وأخلصهم إيمانـًا، وأحسنهم صحبة، وأكثرهم مناقب وأفضلهم سوابق، وأشرفهم منزلة، وأرفعهم درجة، وأقربهم وسيلة، وأشبههم برسول الله هديًا وسمتـًا… سمّاك الله في تنزيله صدِّيقـًا فقال: (( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ)) ( الزمر: 33). فالذي جاء بالصدق محمد ، والذي صدَّق به أبو بكر. واسيته حين بخل الناس، وقمت معه على المكاره حين قعدوا، وصحبته في الشدة أكرم صحبة، وخلفته في دينه أحسن الخلافة، وقمت بالأمر كما لم يقم به خليفة نبي…)).


X أرشيف مطبوعات الديوان


مجلة الرسالة الاسلامية



مجلة عيون الديوان



مجلة بنت الاسلام



مجلة الامة الوسط



مجلة والذين معه