28 / 09 / 2014

وثنية بالطول والعرض

أ. د. عماد الدين خليل

للعصر الحديث وثنيته هو الآخر … وثنية ( الصورة ) التي تعلق على رؤوس الناس في دوائرهم ومؤسساتهم ، وتباع وتشترى في الأسواق ، وتعلق على الصدور ، ويطاف بها في المناسبات وفي غير المناسبات … وتؤطر ، وتمسح جيداً ، ويقف العبيد الجدد إزاءها معجبين … خاشعين !!

للعصر الحديث وثنيته هو الآخر … ولكنها وثنية بالطول والعرض فقط ، بينما كانت أوثان الجاهليين في العالم القديم تملك العمق أيضاً … ربما لأن فن التصوير لم يكن قد استكمل أسبابه بعد … والأمر سواء … صورة تعلّق على الرؤوس الكبيرة في الأمة وتوقرها جماهير الناس … أو وثن يطوف به رجال الملأ ، وتتمسّح عند أقدامه عامة الناس !!

ولحظة دخل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم مكة فاتحاً،وانتهى إلى الكعبة ، ولم
يفرق وهو ينزل معوله في أوثانها بين الحجارة المنحوتة ، وبين الصور البدائية للأنبياء السابقين فأمر بإزالتها جميعاً ، وقال عن صورة مرسومة على جدار الكعبة لإبراهيم وإسماعيل – عليهما السلام – وهما يستقسمان بالأزلام : ( كذبوا ، ما كان إبراهيم وإسماعيل يستقسمان بها قط ).

إن الإسلام لم يحرم النحت أو التصوير لذات النحت أو التصوير ، ولكنه حرم كل ما من شانه أن يقود الناس إلى نوع من التعبّد الوثني لأبناء جنسهم ، في أي زمن أو مكان ، ما دام الله سبحانه قد خلق بني آدم كلهم سواء … ومن ثم فقد لبس المسلمون ثياباً مرسومة ، واستخدموا ستائر منقوشة ، واتكأوا على وسائل مصورة وملونة ، وحفروا ونحتوا المحاريب والمنابر والمآذن والقباب ، ولم يقل أحد أن هذا حرام !

لكن هذه !

هذه العلاقة المزيفة ، والمحزنة في الوقت نفسه ، بين الإنسان الذي جاء الدين لكي يحرّره من الأوهام ، وبين الصور والتماثيل التي تذل عنقه ، وتحني رأسه وهو المخلوق الذي أريد له أن يكون ( سيداً ) على العالمين ! وها نحن الآن في العصر الحديث نعود ثانية إلى زمن الوثنية.

إن أشد الدول تقدماً تكتسح زعماءها اليوم هذه الروح … هذه الرغبة العاتية في أن يفرضوا التعبّد والتقديس على أتباعهم وشعوبهم ، وفي أن يخيّلوا لهم ، بشكل أو بآخر ، انهم مصنوعون من طينة أخرى غير طينتهم ، متربعون في مواقع أعلى بكثير مما يقدرون على الصعود إليه …

إن أي زعيم جديد يجد نفسه مدفوعاً إلى هذا الموقف ، فلا يقرّ له قرار حتى يرى
( صورته ) معلّقة في المؤسسات ، والدوائر، والأزقة ، والشوارع ، والساحات والميادين ، ملصقة على جدران المساجد والكنائس والدور … مرفوعة على الجباه والصدور ، مطاف بها في التظاهرات والمسيرات.

إن هذا يذكرني بما قاله يوماً ( أكنازسيلوني ) الشيوعي الإيطالي ، الذي ارتّد عن الشيوعية لأكثر من سبب ، من أنه رأى جموع الناس في موسكو ـ في ثلاثينيات القرن الماضي ـ تحج إلى قبر ( لينين ) المصنوع من الخشب المتقن ، وانهم يقفون طوابير كي يجيئ الدور على كل واحد منهم في أداء العمرة إلى الصنم ، وأنه حدّث أحد رفاقه هناك بأنه يتمنى لو يتاح له إحراق هذا القبر واستئصاله حماية لمبادئ ( لينين ) نفسه !!

ومن ثم فان وثنيتنا الحديثة ليست وثنية الطول والعرض فحسب … ليست وثنية الصورة المسطحة فحسب … ولكنها ستؤول ثانية إلى ما كانت عليه شقيقتها البائدة : وثنية الأصنام التي يطاف حواليها ، وتقف جموع الناس أمامها بخشوع ، منكسة الرؤوس والأبصار …

ولا حول ولا قوة إلاّ بالله …


X أرشيف مطبوعات الديوان


مجلة الرسالة الاسلامية



مجلة عيون الديوان



مجلة بنت الاسلام



مجلة الامة الوسط



مجلة والذين معه