15 / 03 / 2015

من عظيم قدره صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ورفعته عند ربه أن سابه يقتل وإن تاب...

أ.د : فهمي أحمد عبد الرحمن القزاز

إنَّ مِن الذنوب ذنوباً لا يَغفرها الله أبداً؛ وهي الإشراك به، وما سِوى ذلك منها فهي تحت مَشيئتِه، إن شاء غفَر وإن شاء عذَّب؛ قال تعالى: (( إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيدًا )) (النساء: 116)، وقال الفُقهاء: إن مِن الذنوب ذنوباً لعظمتها عند الله ليس فيها كفَّارة؛ كإفطار يوم مِن رمضان مِن غير رخصة، وكاليمين الغَموس، وهذا ما ذهب إليه ابن مسعود فقال: ((كنا نعدُّ مِن الذَّنب الذي لا كفارة له اليَمينَ الغموس))، فقيل: ما اليَمين الغموس؟ قال: ((اقتِطاع الرجل مالَ أخيه باليَمين الكاذبة)) ، وهذا ما ذهَب إليه جمهور الفقهاء؛ أبو حنيفة ومالك وأحمد، وخالَفهُم في ذلك الشافعي .

ومِن الذُّنوب ما يتعلَّق فيها حق الله وحق البشر، وإنَّ الفقهاء يقولون: حقوق الله مَبناها على المُسامَحة والمُساهَلة، وحقوق العباد مَبناها على المُشاحة والمُضايَقة، وعليه؛ إن كان الأمر فيه حقُّ البشر، فالأصل عدمه حتى يتبرَّأ مِن صاحبه؛ ولهذا كان حقُّ الآدمي مقدَّماً على حق الله تعالى لما ازدحَم الحقَّان في محلٍّ واحد وتعذَّر استيفاؤهما منه، كما يُقدَّم القِصاص على القتل في الرِّدة، والقطْع في السرقة .

ومِن حُقوق النبيِّ على أمتِه أن توقِّره وتُعزِّره؛ قال تعالى: ((لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً)) (الفتح: 9)، وتأصيلاً على ذلك قال العلماء: إن مَن سبَّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم يُقتَل وإن تاب، وسابُّ الله إذا تابَ لا يُقتَل ؛ وذلك لأنَّ حقَّه التعظيم والتوقير والتعزير، وهذا الحق لأفراد أمتِه كلِّهم، فمَن سبَّه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وجب عليه أن يتبرأ من أفراد أمتِه كلهم، وهذا ليس بالمقدور؛ فيُقتَل.

قال القاضي عياض: ((ولأنَّ لحُكمِ النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم في الحُرمة مزيَّة على أمته، وسابُّ الحرِّ مِن أمته يُحدُّ؛ فكانت العقوبة لمن سبَّه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم القتْل؛ لعَظيم قَدرِه، وشفوف منزلته على غيره))، ومَن سبَّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم فلا يخلو إما أن يكون كافراً أو مسلماً، فإن سبَّه مسلم، قُتل ولم يُستَتبْ؛ قاله عيسى بن دينار، عن ابن القاسم عن مالك في ((العتبية))، وقال ابن القاسم: وكذلك إن عابَه أو تنقَّصَه، فإنه يُقتَل كالزِّنديق لا تُؤمَن توبته، وقد افترض الله تعزيره وتوقيره؛ قال الله – عز وجل -: (( فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ )) (الأعراف: 157) ، فمَن شتَمه فهو بمنزلة مَن أدركْه فلم يُعزِّرْه ولم يَنصُره[8].

ومِن هنا أجمع العلماء على وجوب قتْل سابِّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم إن كان مُسلِماً، وأنه كافر بذلك، ذكَر ذلك ابن المُنذر وغيره .

وحُكي عن مالك: أنه كان لا يرَى لمن سبَّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم توبة ويقبل توبة مَن ذكَر الله بسبٍّ أو شتْم ويكف عنه ، وقال: لا يُستتاب مَن سبَّ النبيَّ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم مِن الكفار والمسلمين .

قال عبدالله ابن الإمام أحمد: سمعتُ أبي يقول فيمَن سبَّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم قال: تُضرَب عنُقه .

قال ابن حجر:

وقد نقَل ابن المُنذِر الاتِّفاقَ على أن مَن سبَّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم صريحًا وجَب قتلُه، ونقل أبو بكر الفارسي أحدُ أئمة الشافعيَّة في كتاب (الإجماع) أن مَن سبَّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم مما هو قذْف صَريح كفَرَ باتِّفاق العلماء، فلو تاب لم يَسقط عنه القتْل؛ لأن حدَّ قذفِه القتل، وحدُّ القذْف لا يسقط بالتوبة، وخالَفه القفَّال فقال: كفَرَ بالسبِّ فيَسقُط القتل بالإسلام، وقال الصيدلانيُّ: يَزول القتل ويجب حدُّ القذْف، وضعَّفه الإمام.

فإن عرَّض، فقال الخطَّابي: لا أعلم خلافًا في وجوب قتله إذا كان مُسلمًا، وقال ابن بطال: اختلَف العلماء فيمن سبَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- فأما أهل العهد ، والذمَّة كاليهود، فقال ابن القاسم عن مالك: يُقتَل إلا أن يُسلِم، وأما المسلم فيُقتل بغير استِتابة، ونقَل ابن المنذر عن الليث ، والشافعي ، وأحمدَ ، وإسحاق مثله في حقِّ اليهودي ونحوه، ومِن طريق الوليد بن مُسلم عن الأوزاعي ومالك في المُسلم: هي رِدَّة يُستتاب منها، وعن الكوفيِّين: إن كان ذميًّا عُزِّر، وإن كان مُسلمًا فهي رِدَّة، وحكَى عياضٌ خلافًا؛ هل كان ترْك مَن وقع منه ذلك لعدم التصريح أو لمصلَحة التأليف؟ ونقل عن بعض المالكيَّة أنه إنما لم يَقتُل اليهود في هذه القصة؛ لأنهم لم تقم عليهم البيِّنة بذلك ولا أقرُّوا به؛ فلم يَقضِ فيهم بعِلمه، وقيل: إنهم لما لم يُظهِروه ولوَوه بألسنتهم ترَك قتلهم، وقيل: إنه لم يَحمِل ذلك منهم على السبِّ بل على الدعاء بالموت الذي لا بدَّ منه؛ ولذلك قال في الرد عليهم: ((وعليكم))؛ أي: الموت نازل علينا وعليكم؛ فلا معنى للدعاء به، أشار إلى ذلك القاضي عياض وتقدَّمت الإشارة إليه في الاستئذان، وكذا مَن قال: ((السأم)) بالهمز؛ بمعنى: السآمة، هو دعاء بأن يَملُّوا الدين وليس بصريح في السبِّ، والله أعلم، وعلى القول بوجوب قتل مَن وقع منه ذلك مِن ذمِّي أو مُعاهَد فتُرك لمصلحة التأليف هل يُنتقَض بذلك عهده؟ محل تأمُّل، واحتجَّ الطَّحاوي لأصحابهم بحديث الباب، وأيَّده بأن هذا الكلام لو صدَر مِن مُسلم لكان رِدَّة، وأما صُدوره من اليهود، فالذي هم عليه مِن الكفر أشدُّ منه؛ فلذلك لم يَقتُلهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وتعقب بأن دماءهم لم تُحقَن إلا بالعهد، وليس في العهد أنهم يسبُّون النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم فمن سبَّه منهم تعدَّ العهد فيُنتقَض، فيصير كافرًا بلا عهد فيُهدَر دمه، إلا أن يُسلم، ويؤيِّده أنه لو كان كل ما يَعتقدونه لا يؤاخَذون به، لكانوا لو قتَلوا مسلماً لم يُقتلوا؛ لأن مِن مُعتقدهم حلَ دماء المسلمين، ومع ذلك لو قتَل منهم أحد مسلمًا قُتل، فإن قيل: إنما يُقتَل بالمسلم قصاصًا بدليل أنه يُقتَل به ولو أسلم، ولو سبَّ ثم أسلم لم يُقتل، قلنا: الفرق بينهما: أن قتل المسلم يتعلَّق بحق آدمي فلا يُهدَر، وأما السبُّ فإن وجوب القتل به يرجع إلى حق الدِّين فيَهدمه الإسلام، والذي يظهر أن ترْك قتل اليهود إنما كان لمصلحة التأليف، أو لكونهم لم يُعلِنوا به، أو لهما جميعًا، وهو أولى، والله أعلم .

ويلتحق بالسبِّ والشتْم غيرُه مما يَنسب النقص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولخَّص القاضي عياض ذلك بقوله: (( اعلم – وفَّقَنا الله وإياك – أن جميع مَن سبَّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أو عابه ، أو ألحَق به نقصًا في نفسه أو نسَبِه أو دِينه أو خصلة مِن خصاله، أو عرَّض به، أو شبَّهه بشيء على طريق السبِّ له، أو الإزراء عليه، أو التصغير لشأنه، أو الغضِّ منه والعيب له، فهو سابٌّ له، والحُكم فيه حكْم السابِّ يُقتل كما نُبيِّنه، ولا نستثني فصلاً من فصول هذا الباب على هذا المقصد، ولا يُمترى فيه تصريحًا كان أو تلويحًا، وكذلك مَن لعَنه أو دعا عليه أو تمنَّى مضرَّةً له، أو نسَب إليه ما لا يليق بمنصبه على طريق الذمِّ، أو عبَث في جهته العزيزة بسخف من الكلام وهُجرٍ ومُنكَر مِن القول وزور، أو عيَّره بشيء مما جرَى من البلاء والمِحنَة عليه، أو غمَصه ببعض العوارِض البشرية الجائزة والمعهودة لديه، وهذا كلُّه إجماع من العلماء وأئمة الفتوى مِن لدن الصحابة – رضوان الله عليهم – إلى هلمَّ جرًّا)) .

وهذا الذي ذكره العلماء هو ما فهمه خصوص الصحابة وعمومهم؛ فعن أبي بَرزَة قال: ((تغيَّظ أبو بكر على رجل، فقلت: مَن هو يا خليفة رسول الله؟ قال: لِمَ؟ قُلتُ: لأضرب عنقه إن أمرتني بذلك، قال: أفكنتَ فاعِلاً، قلت: نعم، قال: فوالله لأَذهبَ عِظَمُ كلمتي التي قلتُ غضبَه، ثم قال: ما كان لأحد بعد محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم .

وأخرجه أحمد بلفظ: أنه قال: كنا عند أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – في عَملِه فغَضب على رجل من المسلمين، فاشتدَّ غضبُه عليه جدًّا، فلما رأيتُ ذلك قلتُ: يا خليفة رسول الله، أَضرِب عُنقَه؟ فلما ذكرتُ القتْل صُرف عن ذلك الحديث أجمع إلى غير ذلك من النحو، فلمَّا تفرَّقنا أرسل إليَّ بعد ذلك أبو بكر الصديق – رضي الله عنه- فقال: ((يا أبا برزة؛ ما قلتَ؟ قال: – ونسيت الذي قلتُ – قلتُ: ذكِّرنيه، قال: أما تَذكُر ما قلتَ؟، قال: قلتُ: لا والله، قال: أرأيت حين رأيتني غضبتُ على الرجل، فقلتَ: أَضرِب عنقه يا خليفة رسول الله؟ أما تذكر ذاك؟ أوَكنت فاعلاً ذاك؟ قال: قلت: نعم والله، والآن إن أمرتني فعلتُ، قال: ويحك – أو ويلك – إنَّ تلك والله ما هي لأحد بعد محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ))

قال ابن حزم:

إن معنى قول أبي بكر هذا، إنما هو ما كان لأحد أن يُطاع في سَفكِ دمٍ بعد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم (قلنا): نعم، وأراد أيضاً معنى آخَر كما روينا مُبينًا بلا إشكال، أغلظ رجل لأبي بكر الصديق، قلتُ: ألا أقتله؟ فقال أبو بكر: ليس هذا إلا لمَن شتَم النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ، فبيَّن أبو بكر الصديق – رضي الله عنه- أنه لا يُقتَل مَن شتمَه؛ لكن يُقتَل مَن شتَم النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وقد عَلمنا أن دم المسلمين حرام إلا بما أباحه الله – تعالى – به، ولم يُبحْه الله تعالى قطُّ إلا في الكفر بعد الإيمان .

قال أبو داود في مسائله:

سمعتُ أبا عبدالله – أي: أحمد بن حنبل – يُسأل عن حديث أبي بكر: ما كانت لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ، فقال: لم يكن لأبي بكر أن يَقتُل رجلاً إلا بإحدى ثلاث، وفي رواية: بإحدى الثلاث التي قالها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم -: ((كفر بعد إيمان، وزِنًا بعد إحصان، وقتْل نفس بغير نفس))، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم كان له أن يَقتُل، وقد استدلَّ به على جواز قتل سابِّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم جماعةٌ من العلماء؛ منهم أبو داود، وإسماعيل بن إسحاق القاضي، وأبو بكر عبدالعزيز، والقاضي أبو يعلى، وغيرهم من العلماء؛ وذلك لأنَّ أبا بَرزَة لما رأى الرجل قد شتَم أبا بكر وأغلَظ له حتى تغيَّظ أبو بكر، استأذَنه في أن يَقتُله بذلك، وأخبره أنه لو أمره لقتلَه، فقال أبو بكر: ليس هذا لأحد بعد النبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ، فعُلم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم كان له أن يَقتُل مَن سبَّه ومَن أغلظ له، وأن له أن يأمر بقتْل مَن لا يعلم الناس منه سببا يُبيح دمه ، وعلى الناس أن يُطيعوه في ذلك؛ لأنه لا يأمر إلا بما أمر الله به ولا يَأمُر بمعصية الله قطُّ، بل مَن أطاعه فقد أطاع الله، فقد تضمَّن الحديث خصيصتَين لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم:

إحداهما: أنه يُطاع في كل مَن أمر بقتلِه.

والثانية: أن له أن يَقتُل مَن شتمَه وأغلَظ له.

وهذا المعنى الثاني الذي كان له باقياً في حقِّه بعد موته، فكل مَن شتَمه أو أغلظ في حقِّه، كان قتله جائزاً ، بل ذلك بعد موته أوكَد وأوكد؛ لأنَّ حُرمتَه بعد موته أكمل، والتساهُل في عِرضه بعد موته غير مُمكن، وهذا الحديث يُفيد أن سبَّه في الجملة يُبيح القتل، ويُستدلُّ بعمومه على قتل الكافر والمسلم .

قال الصنعاني:

الحديث دليل على أنه يُقتَل مَن سبَّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ويُهدَر دمُه، فإن كان مسلماً كان سبُّه له صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ردةً فيُقتل، قال ابن بطال: مِن غير استتابة، ونقَل ابن المُنذِر عن الأوزاعي والليث: أنه يُستتاب، وإن كان مِن أهل العهد فإنه يُقتل إلا أن يُسلِم.

ونقَل ابن المنذر عن الليث والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق أنه يُقتَل أيضاً من غير استِتابة، وعن الحنفيَّة: أنه يُعزَّر المُعاهَد ولا يُقتَل، واحتجَّ الطحاوي بأنه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم لم يَقتل اليهود الذين قالوا: السلام عليك، ولو كان هذا مِن مسلم لكان ردةً، ولأن ما هم عليه من الكفر أشدُّ من السبِّ.

قلت: يؤيِّده أن كُفرَهم به صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم معناه: أنه كذاب، وأي سبٍّ أفحش مِن هذا؟! وقد أقرُّوا عليه، إلا أن يُقال: إن هذا النص في حديث الأمة يُقاس عليه أهل الذمة، وأما القول بأن دماءهم إنما حُقنت بالعهد، وليس في العهد أنهم يَسبُّون النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم فمَن سبَّه منهم انتقض عهده فيصير كافرًا بلا عهد فيُهدَر دمه، فقد يجاب عنه أن عهدَهم تضمَّن إقرارهم على تكذيبهم له .

وهذا ما فهمه الصحابة وأمرهم به صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وأقرَّهم على فِعله، فعندما فتح مكة أمر أصحابه بقتل أربعة نفرٍ وامرأتَين حتى لو تعلَّقوا بأستار الكعبة؛ لأنهم كانوا يَسبُّونه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم والجاريتان يتغنيان بذلك .

فعن مصعب بن سعد عن أبيه قال: ((لما كان يوم فتح مكة أمَّن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم الناس إلا أربعة نفر وامرأتين، وقال: ((اقتُلوهم، وإن وجدتموهم متعلِّقين بأستار الكعبة))؛ عكرمة بن أبي جهل، وعبدالله بن خَطَل، ومَقيس بن صُبابة، وعبدالله بن سعد بن أبي سَرْح)).

وأما إقراره صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم فأصلُه حديث ابن عباس: أن أعمى كانت له أمُّ ولد تَشتُم النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وتقع فيه، فيَنهاها فلا تَنتهي، ويَزجُرها فلا تَنزجِر، قال: فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وتَشتُمه، فأخذ المِغوَل فوضَعه في بَطنِها واتَّكأ عليها فقتَلها، فوقع بين رِجلَيها طِفل فلطَّخت ما هناك بالدم، فلما أصبَح ذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم فجمع الناس فقال: ((أَنشُد الله رجلاً فعل ما فعل لي عليه حق إلا قام))، فقام الأعمى يتخطَّى الناس وهو يَتزلزل حتى قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم فقال: يا رسول الله، أنا صاحِبها، كانت تَشتُمك وتقع فيك فأنهاها فلا تنتهي، وأَزجُرها فلا تَنزجِر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتَين، وكانت بي رفيقةً، فلما كانت البارحة جعلتْ تَشتُمك وتقع فيك، فأخذت المِغوَل فوضعته في بطنها واتَّكأت عليها حتى قتلتها، فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: ((ألا اشهدوا أن دمَها هدر)).

ومن رحمته صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم بأمته أنه أخَذ مِن الله عهدًا أنه إذا سبَّ أو لعَن أو دعا على فرد مِن أفراد أمته، كان مَغفِرةً لذُنوبه وكفَّارةً لها ورحمة؛ فعن أبي هريرة – رضي الله عنه -: أنه سمع النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم يقول: ((اللهم، فأيما مؤمن سبَبتُه، فاجعل ذلك له قربةً إليك يوم القيامة)) ، وفي رواية: ((اللهم، إنما أنا بشر، فأيما رجل من المسلمين سبَبتُه أو لعنته أو جلدته، فاجعلها له زكاةً ورحمةً)) ، وفي رواية: ((اللهم، إنما محمد بشر يَغضب كما يَغضب البشر، وإني قد اتَّخذت عِندك عهدًا لن تُخلِفَنيه، فأيما مؤمن آذيتُه أو سببته أو جلدته، فاجعلها له كفارةً وقربةً تُقرِّبه بها إليك يوم القيامة)) ، وسبب ورود هذا النص:

أولاً: عن عائشة قالت: دخَل على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم رجلان فكلَّماه بشيء – لا أدري ما هو – فأغضباه، فلعَنهما وسبَّهما، فلما خرَجا قلتُ: يا رسول الله، مَن أصاب مِن الخير شيئًا، ما أصابه هذان، قال: ((وما ذاك؟))، قالت: قلت: لعنتَهما وسببتَهما، قال: ((أوَما علمتِ ما شارطتُ عليه ربي؟ قلت: اللهم، إنما أنا بشر، فأيُّ المسلمين لعنته أو سببته، فاجعله له زكاةً وأجرًا)) .

ثانياً: عن أنس بن مالك قال: كانت عند أم سُليم يتيمة وهي أمُّ أنس، فرأى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم اليتيمة، فقال: ((آنتِ هيهْ؟ لقد كبرتِ لا كبر سنُّك))، فرجعَت اليتيمة إلى أمِّ سليم تَبكي، فقالت أمُّ سليم: ما لكِ يا بُنية؟ قالت الجارية: دعا عليَّ نبيُّ الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ألا يَكبَر سنِّي، فالآن لا يَكبر سنِّي أبدًا – أو قالت: قرْني – فخرجَت أم سليم مُستعجِلةً تلوث خِمارها، حتى لقيتْ رسولَ الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم فقال لها رسولُ الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم : ((ما لك يا أم سليم؟))، فقالت: يا نبي الله، أدعوتَ على يتيمتي؟ قال: ((وما ذاك يا أمَّ سليم؟))، قالت: زعمتْ أنك دعوتَ ألا يَكبَر سنُّها ولا يَكبر قرنها، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ثم قال: ((يا أم سليم، أما تَعلمين أن شَرطي على ربي، أني اشترطتُ على ربي فقلت: إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر، وأغضب كما يغضب البشر، فأيما أحد دعوت عليه مِن أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن يجعلها له طَهورًا وزكاةً وقربةً يقرِّبه بها منه يوم القيامة؟))، وقال أبو معن: يُتَيِّمة؛ بالتصغير في المواضع الثلاثة مِن الحديث .

ثالثًاً: عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم دفع إلى حفصة ابنة عمر رجلاً فقال: ((احتفظِي به))، قال: فغفلتْ حفصة ومضى الرجل، فدخل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وقال: ((يا حفصة، ما فعل الرجل؟)) قالت: غَفلتُ عنه يا رسول الله فخرَج، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: ((قطع الله يدَك))، فرفعت يدَيها هكذا، فدخل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم فقال: ((ما شأنُك يا حفصة؟))، فقالت: يا رسول الله؟ قلتَ قبلُ لي: كذا وكذا، فقال لها: ((صُفِّي يدَيك؛ فإني سألت الله – عز وجل – أيما إنسان مِن أمَّتي دعوت الله – عز وجل – عليه أن يجعلها له مغفرةً)).

رابعاً: عن عُروة بن الزبير: أن عائشة قالت: إن أمداد العرب كَثُروا على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم حتى غمُّوه، وقام إليه المهاجرون يَفرِجون دونه حتى قام على عتبة عائشة، فرَهِقوه فأسلمَ رداءه في أيديهم ووثَب على العتبة فدخل، وقال: ((اللهم الْعنهُم))، فقالت عائشة: يا رسول الله، هلَك القوم، فقال: ((كلا والله يا بنتَ أبي بكر؛ لقد اشترطتُ على ربي – عز وجل – شرطًا لا خُلفَ له، فقلتُ: إنما أنا بشر أضيق بما يَضيق به البشر، فأي المؤمنين بدرتْ إليه مني بادِرة، فاجعلها له كفارةً)).

قال الإمام النووي – دافعًا للوهم أن يَصدُر منه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ، سبٌّ أو لعن أو غير ذلك – هذه الأحاديث مُبيِّنة ما كان عليه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم من الشفقة على أمته، والاعتناء بمصالِحهم، والاحتياط لهم، والرغبة في كل ما يَنفعُهم، وهذه الرواية المذكورة آخِرًا تُبيِّن المراد بباقي الروايات المُطلَقة، وأنه إنما يكون دعاؤه عليه رحمة وكفارة وزكاة ونحو ذلك إذا لم يكن أهلاً للدعاء عليه والسبِّ واللعن ونحوه وكان مُسلمًا، وإلا فقد دعا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم على الكفار والمنُافِقين ولم يكن ذلك لهم رحمة، فإن قيل: كيف يدعو على مَن ليس هو بأهل للدعاء عليه أو يسبُّه أو يلعنه ونحو ذلك؟ فالجواب: ما أجاب به العلماء، ومُختَصره وجهان:

أحدهما: أن المراد ليس بأهل لذلك عند الله – تعالى – وفي باطن الأمر، ولكنه في الظاهر مُستوجِب له، فيُظهر له – صلى الله عليه وسلم – استحقاقه لذلك بأمارة شرعيَّة، ويكون في باطن الأمر ليس أهلاً لذلك، وهو صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم مأمور بالحُكمِ بالظاهر والله يتولَّى السرائر.

والثاني: أن ما وقَع مِن سبِّه ودعائه ونحوه ليس بمقصود، بل هو مما جرت به عادة العرب في وصل كلامها بلا نيَّة؛ كقوله: تربتْ يَمينك، وعَقرَى حَلقَى.

وفي هذا الحديث: ((لا كبِرتْ سِنُّك))، ونحو ذلك لا يَقصدون بشيء مِن ذلك حقيقة الدعاء، فخاف صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أن يُصادِف شيء من ذلك إجابة، فسأل ربه – سبحانه وتعالى – ورغب إليه في أن يَجعل ذلك رحمةً وكفَّارةً وقربةً وطَهورًا وأجرًا، وإنما كان يقع هذا منه في النادِر والشاذِّ مِن الأزمان، ولم يكن صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم فاحِشاً ولا مُتفحِّشاً ولا لعاناً ولا مُنتقماً لنفسه، وقد سبق في هذا الحديث أنهم قالوا: ادعُ على دوس، فقال: ((اللهم اهدِ دوسًا))، وقال: ((اللهم اغفر لقومي؛ فإنهم لا يعلمون))، والله أعلم، وأما قوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: ((أغضب كما يغضب البشر)) فقد يُقال: ظاهره: أن السب ونحوه كان بسبب الغضب، وجوابه: ما ذكَره المازري قال: يُحتمل أنه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أراد: أي: دعاءه وسبَّه وجلده كان مما يخيَّر فيه بين أمرَين:

أحدهما: هذا الذي فعله.

والثاني: زَجره بأمر آخَر، فحمله الغضب لله – تعالى – على أحد الأمرَين المُتخيَّر فيهما، وهو سبُّه أو لعنه وجلده ونحو ذلك، وليس ذلك خارجًا عن حكم الشرع، والله أعلم.

ومعنى ((اجعلها له صلاة)) أي: رحمة؛ كما في الرواية الأخرى، والصلاة من الله تعالى الرحمة .

قال ابن بطال:

وهو صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم لا يسبُّ أحدًا ولا يُؤذيه ظلمًا له، وإنما يفعل مِن ذلك الواجب في شريعته، قد يدع الانتقام لنفسه؛ لما جبَله الله عليه مِن العفوِ ، وكريم الخلُق صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ومعنى هذا الحديث، والله أعلم: التأنيس للمَسبوب؛ لئلا يَستولي عليه الشيطان، ويُقنِّطه ويُوقِع بنفسه أن سيَلحقه مِن ضرر سبِّه ما يَحبط به عمله؛ إذ سبُّه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم هو دعاء على المسبوب، ودعاؤه مُجابٌ، فسأل الله أن يجعل سبَّه للمؤمنين قربةً عنده يوم القيامة وصلاةً ورحمةً، ولا يجعله نقمةً ولا عذابًا .

قال ابن حجر ناقلاً عن العلماء ومُوضِّحًا هذا الإشكال بقوله:

قال المازري: إن قيل: كيف يدعو صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم بدعوة على مَن ليس لها بأهل؟ قيل: المراد بقوله ((ليس لها بأهل)) عندكَ في باطن أمره، لا على ما يَظهر مما يَقتضيه حاله وجنايته حين دُعائي عليه، فكأنه يقول: مَن كان باطن أمره عندك أنه ممَّن ترضى عنه، فاجعل دعوتي عليه التي اقتضاها ما ظهَر لي مِن مُقتَضى حاله حينئذٍ طَهورًا وزكاةً، قال: وهذا معنًى صحيح لا إحالة فيه؛ لأنه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم كان مُتعبِّداً بالظواهِر، وحساب الناس في البواطن على الله، انتهى، وهذا مبنيٌّ على قول مَن قال: إنه كان يَجتهد في الأحكام ويَحكُم بما أدى إليه اجتهاده، وأما مَن قال: كان لا يَحكم إلا بالوحي، فلا يأتي منه هذا الجواب، ثم قال المازري: فإن قيل: فما معنى قوله: ((وأغضب كما يَغضب البشر))؟ فإن هذا يشير إلى أن تلك الدعوة وقعتْ بحكْم سَورة الغضب، لا أنها على مُقتضى الشرع، فيعود السؤال، فالجواب: أنه يُحتمَل أنه أراد أن دعوته عليه أو سبَّه أو جلده كان مما خُيِّر بين فعله له عقوبةً للجاني أو تركه والزجر له بما سوى ذلك، فيكون الغضب لله تعالى بعَثَه على لعنِه أو جَلدِه، ولا يكون ذلك خارجًا عن شَرعِه، قال: ويُحتمَل أن يكون ذلك خرَج مخرج الإشفاق وتعليم أمته الخوف مِن تعدِّي حدود الله، فكأنه أظهر الإشفاق مِن أن يكون الغضب يَحمِله على زيادة في عقوبة الجاني لولا الغضب ما وقعَتْ، أو إشفاقًا من أن يكون الغضب يَحمِله على زيادة يَسيرة في عقوبة الجاني لولا الغضب ما زادتْ، ويكون من الصغائر على قول مَن يُجوِّزها، أو يكون الزجر يَحصل بدونها، ويُحتمَل أن يكون اللعن والسبُّ يقع منه من غير قصد إليه، فلا يكون في ذلك كاللعنة الواقعة رغبةً إلى الله وطلبًا للاستجابة، وأشار عياض إلى ترجيح هذا الاحتِمال الأخير فقال: يُحتَمل أن يكون ما ذكره مِن سبٍّ ودعاء غير مقصود ولا منويٍّ، ولكن جرى على عادة العرب في دعم كلامها وصِلَة خطابها عند الحرَجِ والتأكيد للعتب لا على نيَّة وقوع ذلك؛ كقولهم: عَقرَى حَلقَى، وتَرِبتْ يَمينك، فأشفَق من مُوافَقة أمثالها القدر، فعاهَد ربه ورَغِب إليه أن يجعل ذلك القول رحمةً وقربةً، انتهى، وهذا الاحتمال حسن، إلا أنه يرد عليه قوله: ((جلدته)) فإن هذا الجواب لا يتمشَّى فيه؛ إذ لا يقع الجَلد عن غير قصد، وقد ساق الجميع مساقًا واحدًا، إلا إن حُمل على الجلدة الواحدة فيتَّجه، ثم أبدى القاضي احتمالاً آخَر فقال: كان لا يقول ولا يفعل صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم في حال غضبه إلا الحق، لكنَّ غضبَه لله قد يحمله على تعجيل مُعاقَبة مُخالِفه وترْك الإغضاء والصفح، ويؤيِّده حديث عائشة: ((ما انتقم لنفسه قطُّ، إلا أن تُنتهَك حرمات الله)) وهو في الصَّحيح، قلت: فعلى هذا فمعنى قوله: ((ليس لها بأهل))؛ أي: مِن جهة تعين التعجيل .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبِه وسلَّم.

 


X أرشيف مطبوعات الديوان


مجلة الرسالة الاسلامية



مجلة عيون الديوان



مجلة بنت الاسلام



مجلة الامة الوسط



مجلة والذين معه